«سمرة مشربة بالحمرة كالنيل».. كيف حلل عبد الرحمن صدقي صورة «العقاد»؟
في عدد نوفمبر من مجلة الهلال والصادر عام 1964، وتحت عنوان “تحليل العقاد بالصور”، نشر الشاعر عبد الرحمن صدقي، عدة صورة للأديب محمود عباس العقاد، في مراحل عمرية مختلفة، من الصبا مرورا بالشباب حتى الكهولة.
يقول “صدقي” في مستهل مقاله: للعقاد صور كثيرة كلها في لوحة ذهني، وأن كان بعضها يستولي علي ذهني أكثر من غيره ويلازمني، وأعني بهذا البعض من صوره الأثيرة عندي تلك الصورة التي كنت آراه عليها أول ما عرفته في مطلع القرن العشرين وأنا في ذلك الحين، شاب من شباب الجيل المتحمسين لمطلع الأدب الجديد. وكنت فيما أعتقد أشدهم تحمسا للعقاد، فهو وقتئذ بطل الأدب وعملاقة في نظري ونظر القليلين، وكان أملنا في الحياة أن نراه كذلك في نظر العرب أجمعين.
ــ ملامح العقاد الجسدية والنفسية كما صورها عبد الرحمن صدقي
وعن صورة العقاد في ذهنه كما تصورها الشاعر عبد الرحمن صدقي: قامة مديدة العملاق في غير عنف ولا بد أنه سمرة مشربة بالحمرة كالنيل يستهل فيضانه، ذقن بارز معقوف ينبئ عن الصلابة والاستقامة، من فوقه شفة مقوسة تنم عن الاستخفاف وسرعة الانفعال. أنفه أشم جميل فيه عزة وحدة، وعيناه غير الواسعتين فيهما حيطة، وفي سيماء وجهه تترائى أعماق حزن وتفكير.
ــ “العقاد” لم يكن ممن تخطئهم العين
وهذا الوجه المستطيل الناطق الأسارير، تتوجه هامة يربي قطرها طولا علي قطرها عرضا بنسبة ظاهرة ملحوظة. ومن أجل هذا جميعه لم يكن العقاد ممن تخطئهم العين، وهو يسير كالمارد في شوارع القاهرة الآهلة بعشرات المئات من السابلة غادين ورائحين، وهو يسير بينهم بخطوات واسعة وإحساس بالوحدة، ولكنه مع سرعته ووحدته يحس جميع ما حواليه ويشعر معه، وفي معظم الآحايين، يقع عليه نظر العابرين واقفا إلي واجهة مكتبه، يرمق بعين فاحصة أنفس ما أخرجته المطابع من تراث الثقافة العربية، وآخر ما ورد في البريد من طرائف المؤلفات الأجنبية، وقد طالت أمام زجاج المكتبة وقفته، وهو ملتف في معطفه وعليه سيماء حزنه ووحدته، كأنه في عالم الطير “مالك الحزين” في وقفته على ضفة النيل القديم.
ــ صورة من طفولة العقاد وهو تلميذ
ويضيف الشاعر عبد الرحمن صدقي: أن المتطلع إلي صورة العقاد الأولي عام 1902 وهو تلميذ في الثالثة عشرة من عمره بالمدرسة الإبتدائية بأسوان، لا يفوته أن يلمح في تلك السن المبكرة ما هو كامن بالوراثة في الغلام من يقظة الحس، وحدة المزاج وقوة الإرادة، والاعتزاز بالنفس مع الاستعداد للتمرد والتأهب والتحدي.
ــ صورة العقاد في ثورة 1919
وتندلع ثورة 1919، ويصبح العقاد بعدها لسان حزب الأغلبية منذ عام 1923، وفارس صحافتها المغوار، صاحب القلم الجبار، الذي تتطاير منه صواعق النار على خصوم الحزب المتهمين بممالأة الاستعمار.
ولفت “صدقي”: وللمرة الأولى يشعر العقاد في كفاحه بالسعادة، لأنه في الرؤساء القادة، ولأنه لم يعد في المجتمع ذلك الغريب الذي يتعزى عن وحدته بأنها وحدة العظيم لانفراده بعظمته.
ــ هكذا صار العقاد محط أنظار النساء
ويضيف الشاعر “عبد الرحمن صدقي”: فقد أصبح العقاد اليوم موصول الأسباب بالمجتمع، مسموع الكلمة عند الكثرة، مرموق المكانة يشار إليه بالبنان، ويجري اسمه علي كل لسان، وقد كان من شأن ذلك كذلك، أن انجذبت إليه أنظار النساء علي عادتهن بعد أن صار محط الأنظار فساهمن في تضفير ما وضعه الرجال علي هامته من أكاليل الغار، واستقبلهن في صالونه، وانعكس هذا كله في شعره غزلا حسيا وغير حسي ــ سارة وهند ــ كما انعكس بطبيعة الحال في صوره في ذلك العهد، بما داخلها من مخايل الطاووس، في تجمله وعنايته بمظهره ووجاهته، واحتفاله بأناقته وزينته، دون المساس أدني المساس بسمت وقاره ورجولته.