ظهور الراديو أدي لاندثارهم .. رواة الملاحم الشعبية ملمح فني مصري خالص
يستدعي نجاح مصر في تسجيل الاحتفالات المرتبطة برحلة العائلة المقدسة، على قائمة اليونسكو للتراث اللامادي، إلى الذهن العديد من الفنون القولية التي عرفتها الثقافة المصرية وتنتمي إلى تراثها اللامادي.
ومن الفنون القولية “الملاحم الشعبية” أو شعراء الربابة، ممن كانوا يتجولون بين المقاهي، ينشدون ويعزفون السير والملاحم الشعبية، كسيرة “أبي زيد الهلالي”، و"الزناتي خليفة" وغيرها، كانت هذه التسلية الوحيدة قبل أن يظهر الراديو فيندثر هذا الفن ومبدعيه.
ويذكر المؤرخ الإذاعي “عبد المنعم شميس”، في كتابه “قهاوي الأدب والفن في القاهرة”، أن قهاوي السير الشعبية كانت منتشرة في أحياء القاهرة، لكنها اندثرت ولم يعد لها وجود على الإطلاق.
وقد تحدث عن هذه القهاوي علماء الحملة الفرنسية، وذكروا أن هؤلاء المنشدين هم رواة ملاحم حقيقيون يقصون الأشعار التاريخية أو الروائية أو الخيالية، وبعض هؤلاء يقص الأشعار وهو يقرأ، وهناك آخرون يروونها عن ظهر قلب.
ويلفت "شميس"، أن شعراء الملاحم يستخدمون آلة موسيقية لمساندة الصوت وإطالته، وهم يرتجلون هذه السير الشعبية، وهذه الآلة هي الرباب، المزودة بوتر واحد.
وذكر هؤلاء العلماء أن الأماكن التي يتردد عليها هؤلاء المرتجلون والمحدثون هي القهاوي، إذ هم على يقين بأنهم يجدون هناك على الدوام جمهور كبير العدد، مهيأ لتشجيعهم ومكافأة مواهبهم، ولكن الأثرياء الذين لا يترددون علي المقاهي، فإنهم يدعون إلى بيوتهم رواة الملاحم، كما يستدعون الموسيقيين والراقصات لتسليتهم، ويكون هذا الأمر غالبًا احتفالًا ببعض المناسبات العائلية السعيدة مثل مولد طفل أو حفل عرس أو الاحتفال بضيوف.
كلوت بك يوثق لطائفة رواة الملاحم
وقد تحدث الدكتور كلوت بك عن هؤلاء المنشدين الذين يطلق عليهم اسم شعراء بتفصيل أكثر، وقال أنهم طائفة خاصة من الناس يروون تلك القصص على مسامع الجمهور، وهم ينقسمون إلي أقسام أو فرق تختص كل فرقة منها برواية قصة واحدة، كي لا يعتدي محدثو إحدى الفرق على غيرهم من محدثي الفرق الأخري.
وأكثر تلك الفرق عددا هي الفرقة التي تسمى أعضاءها بالشعراء، فقد احتكر هؤلاء الشعراء قصة أبي زيد الهلالي في المجتمعات العامة، وكان في القاهرة وحدها في عصر محمد علي خمسون شاعرا من تلك الفرقة.
ويليها الفرقة الخاصة بقصة “الظاهر بيبرس” ويسمي أعضاؤها بالمحدثين، ثم الفرقة المحتكرة لسيرة “عنترة العبسي” ويسمي رجالها بـ “العنترية”.
ويوضح “شميس”: "ولم يذكر كلوت بك ولا علماء الحملة الفرنسية من قبله بعض السير الشعبية التي كانت مشهورة في قهاوي القاهرة، مثل سيرة “الأميرة ذات الهمة”، و"علي الزيبق"".
وعن طريقة أداء هذه الملاحم الشعبية يمضي مستشهدا بـ كلوت بك: المحدثون طائفة خاصة من الناس يروون تلك القصص على مسامع الجمهور. والعادة المتبعة أن يجلس الرواة من المحدثين والشعراء والعنترية، وغيرهم على أبواب القهوات الكبرى في كل ليلة ولا سيما في ليالي الأعياد والاحتفالات، وقد أعدت لجلوسهم صفة مرتفعة يستطيعون من أعلاها إبلاغ أصواتهم إلي مسامع الجميع موزونة الأنغام فيما يلقونه من القطع الشعرية، بأداة موسيقية ذات وتر واحد تسمى الربابة، ويجلس السامعون أمامهم صفوفاً متوازية كل منهم منصت لما يسمعه من القول، ومدخن للشبك، أو متذوق طعم البن تبدو على وجهه علامات السرور والاغتباط بما يسمعه من غريب الحوادث التي يضاعف اهتمامه بسماعها أسلوب القائها، فإن الرواة يلقونها بأصوات حماسية مقرونة بالإشارات التمثيلية، والحركات التي من شأنها أن تستثير الهمم من مكانها، وتوقظ النشاط من سباته، وكلما ازدحم المكان بالسامعين كانت رواية حوادث القصة أفعل في نفوسهم بما يأتيه الراوي من التفنن في الأساليب التي تشحن العواطف، وكثيرًا ما يستفزهم ذلك إلي ابتكار حوادث وأقوال من عندهم يضيفونها إلى الأصل، التماس المبالغة في تحريك النفوس واستثارتها.
وعندما ينتهي الرواة من سرد حكاياتهم يوافيهم صاحب القهوة بيسير من المال أجرة لهم، وهذا غير ما يجمع رئيسهم من السامعين علي أنه لا أحد من هؤلاء يلزم في الحقيقة بدفع أي مبلغ إليه بمثابة أجر له ولكنهم لا يضنون عادة بشيء من المال، كل بقدر همته وبحسب ما تكون القصة قد أحدثته في نفسه من السرور والارتياح والنشاط.