محمد أبوالعلا السلامونى يكتب: المسرح أيقونة الثقافة المصرية
ينظر الكثيرون إلى أن المسرح مجرد فرع من فروع الثقافة أو على أكثر تقدير أنه أبوالفنون، مع أن الحقيقة أن المسرح أكبر من كل ذلك وأعظم، وربما اعتقد البعض أن هذا كلام مبالغ فيه، إلا أن الحقيقة التى يغفلها الكثيرون هى أن المسرح وعاء التجربة البشرية فى تطورها فكريًا وفلسفيًا وأخلاقيًا، والذى يؤكد ذلك أن كل ظواهر الحضارة الإنسانية فى العالم سواء قديمًا أو حديثًا يكمن داخلها عنصر الدراما الذى هو خلق مبتكر من داخل البنية الأساسية لفن المسرح.
هل ينكر أحد أن العلوم الطبيعية بل ما وراء الطبيعة والعلوم الإنسانية كلها تتحقق فى داخلها عوامل الصراع والتدافع والتغير والجدل المادى والمثالى، وكان المسرح هو الشكل الأول والمبتدأ الذى عبر عنه فى صورة الدراما التى خرجت من صلب نظرية المحاكاة التى عبر عنها أرسطو بأنها غريزة كامنة فى أعماق الإنسان منذ خلق على وجه الأرض، وما دامت المحاكاة على هذا النحو غريزة بشرية ملازمة للتكوين البيولوجى والفسيولوجى والسيكولوجى والسيسولوجى للإنسان، فلا مجال للقول إن المسرح ترجع شهادة منشئه إلى الإغريق وحدهم، كما قال يوسف إدريس، ولا يعنى أنه كان متجليًا فيما أبدعوه من التراجيديا والكوميديا والملاحم، أنه لم يكن موجودًا عند البعض الآخر من الشعوب كما زعموا أنه لم يكن موجودًا فى تراثنا، لكن يمكن أن نقول إنه لم يكن موجودًا بالفعل ولكنه كان موجودًا بالقوة، أو لنقل إنه كان مخفيًا أو مطمورًا أو مقموعًا أو مضطهدًا أو محتقرًا أو ما شابه ذلك من معانٍ أو فتاوى أو آراء، المهم أنه موجود سواء بالفعل أو بالقوة وفقًا للعقائد والثقافات السائدة لدى المجتمعات المختلفة.
واسمحوا لى ونحن بصدد الحوار الوطنى الذى سوف يحدد الهوية الثقافية لمجتمعنا فى السنوات المقبلة، أن ألفت نظركم إلى أهمية دور المسرح فى دعم البنية الثقافية الوطنية والهوية القومية ليس كمجرد فن من ضمن الفنون، بل باعتباره القاعدة والبنية التحتية لبناء مستقبل هذا الوطن، ودعونى أعود بكم إلى شهادة مفكر لا يشك أحد فى شهادته حين يتحدث عن أهم إنجاز فكرى فى تاريخ البشرية جاء عن طريق المسرح.
أقصد بذلك عالم المصريات الشهير هنرى برستيد صاحب كتاب «فجر الضمير»، يقول برستيد إن عمر الإنسان على وجه الأرض يبلغ تقريبًا مليون سنة، كان مجرد مخلوق ضمن بقية المخلوقات يعيش الحياة الوحشية البرية عبر العصور الجيولوجية العديدة، يتصرف خلالها حياة الصراع الدموى من أجل البقاء كبقية المخلوقات دون قانون أو ثقافة أو فكر أو نظام أو ضمير أو أخلاق، مليون سنة دون كل هذا إلى أن بزغ لديه الضمير الذى هو أساس كل ما افتقده الإنسان خلال هذا المليون سنة، وكان بزوغ هذا الضمير بالتحديد مع الخمسة آلاف سنة الأخيرة بعد المليون سنة، تصوروا خمسة آلاف سنة فقط هى عمر الإنسان بعد أن عرف الضمير، ترى لو عقدنا نسبة بين الزمنين ماذا تكون النتيجة؟ المدهش حقًا أن الخمسة آلاف سنة من بداية الضمير تعرفنا عليها فقط من نقوش المسرحية الفرعونية «إيزيس وأوزيريس» من خلال اكتشاف الحجر الأسود الذى كان يستخدمه بعض الفلاحين كقاعدة حجرية لطحن الغلال.
انظروا معى ماذا يعنى ظهور الضمير؟، إنه يعنى ظهور الإنسان الباطنى الذى يحاور الإنسان البدائى.. سليل المليون سنة من التوحش، تمامًا وكأننا أمام إسخيلوس وهو يقترح الممثل الثانى لتظهر تقنية الحوار المسرحى والمسرح الإغريقى، وها هو المفكر الفرعونى العبقرى يسبقه بخمسة آلاف سنة يقترح شخصية الضمير أمام الإنسان الأول ليس ليظهر تقنية الحوار فى المسرح المصرى فقط، بل يقترح الحوار فى المسرح البشرى والإنسانى على وجه الأرض، هذه هى عظمة المسرح المصرى القديم الذى وضع الأساس لشخصية الضمير ومبادئ الأخلاق الإنسانية فى الكرة الأرضية فى مواجهة تاريخ الوحشية البدائية التى ما زالت آثارها حتى الآن مبتدية فى ظواهر الحروب الاستعمارية والاستيطانية، والعنصرية والطائفية والإرهابية.
ألا يحق لنا على الأقل أن تهتم لجنة الحوار الوطنى بأن تضع فى توصياتها أن يتحول المسرح المصرى إلى أيقونة الثقافة المصرية باعتباره الحضانة للضمير الإنسانى باعتراف العالم، التى أظهرت الإنسان فى صورته الإنسانية بعد عهود التوحش والهمجية، وأن يصدر قرار قومى بتحويل المسرح المصرى إلى هيئة قومية ثقافية عليا لبناء الهوية والوعى الوطنى والقومى والإنسانى الذى طالما دعت إليه القيادة السياسية للجمهورية الجديدة، بدلًا من حالة التشرذم والعشوائية والارتجالية والشللية والمصالح الشخصية والبيروقراطية التى تسود الآن حياتنا المسرحية ويستغلها دعاة التخلف والتطرف والإرهاب والفساد.