المرتحل فى الألم
خبّاب بن الأرت رجل من معدن خاص، يعلم أن كل معاناة فى الحياة تذوب أمام لحظة إيمان تدرك فيها النفس أن الله تعالى هو من يخط بحكمته أقدار البشر، وأنه جل وعلا آخذٌ بناصية كل ما يدب ومن يدب على وجه الأرض. شاء الله تعالى أن يقع فى الأسر وهو طفل صغير، بِيع فى سوق العبيد، واشترته سيدة خزاعية، اسمها «أم أنمار»، وهى أم سباع بن عبدالعزى الذى قتله حمزة بن عبدالمطلب فى غزوة «أحد» قبل أن يغدره وحشى- عبد هند بنت عتبة- بحربته. حلم التحرر من أسر العبودية ظل يطارده خلال رحلة الطفولة والصبا، اشتاق إلى لحظة يشعر فيها بأنه حر يملك أمره، ولم تبخل عليه الأقدار التى كانت تعده لمهمة معينة مع محمد، صلى الله عليه وسلم. سمع عن الدين الجديد الذى يدعو إليه، الدين الذى يلقى بطوق النجاة للمستضعفين المعذبين فى دنيا الإنسان، فأخذ يفهم أكثر، حدثته نفسه بأن طريق النبى هو الطريق الحق الذى يفضى بمن يسير عليه إلى حلم التحرير.
قبل أن تسمع مكة عن التفاعلات التى تجرى فى دار الأرقم، والاجتماعات التى تنعقد بين النبى والمؤمنين الأوائل، ذهب خبّاب بن الأرت إلى محمد، صلى الله عليه وسلم، وسمع منه وآمن برسالته، فكان سادس ستة من المؤمنين الأوائل. وَقْع خبر إيمانه كان داهمًا على «أم أنمار» السيدة القاسية التى عوّدتها حرفتها فى قطع البظور على مشاهد الدماء، ولم يكن ابنها «سباع» أقل منها قسوة. نظر الاثنان إلى خبّاب- بعد أن سمعا عن إسلامه- كفريسة ضعيفة بإمكانهما أن يفعلا فيه كل ما يريدان دون أن يردهما أحد، كيف لا وهو يعيش فى مكة بلا ظهير من عشيرة أو عائلة أو مال أو نفوذ يحميه؟. احتمل «خبّاب» صنوفًا شتى من العذاب، تحصن بإيمانه يلتمس فيه سبيلًا لتحمل ما يلاقيه من تنكيل وإهانة وإهدار للكرامة، فالمستضعف لا ملجأ له من ظلم البشر إلا الله. دخل «خبّاب» ذات يوم على عمر بن الخطاب، فرحب به الخليفة وأكرم مجلسه، ثم قال له: ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا بلال، فرد عليه قائلًا: يا أمير المؤمنين إن بلالًا كان يُؤذَى، وكان له من يمنعه «يقصد أبا بكر»، وإنى كنت لا ناصر لى، والله لقد سلقونى يومًا فى نار أججوها، ووضع أحدهم رجله على صدرى فما اتقيت الأرض إلا بظهرى، ثم كشف عن ظهره فإذا عليه آثار التعذيب.
رحلات الألم لا بد وأن تترك آثارها على جسد من يُبتلى بها، فتصيبه بالعلل والأمراض، ورحلة آلام «خبّاب» كانت طويلة ومتنوعة، فقد كانت أم أنمار وسباع يعاملانه بمنتهى القسوة وهو طفل، ويستبيحان جسده وكأنه ليس منه، ثم كانت مأساة تعذيبه بعد أن آمن بمحمد، وما خلّفه على جسده من جروح، ثم كان بلاؤه العظيم فى الدفاع عن الرسالة، حيث خاض مع النبى، صلى الله عليه وسلم، المشاهد كلها. كل موضع فى جسده كان يعانى جرحًا أو وجعًا، لكن نفسه المؤمنة المتماسكة مثّلت سر تحمله لما ابتلى به من علل وأمراض، فعاش صامدًا، تقاوم نفسه الصلبة جسده الواهن، لم تعرف نفسه الانكسار إلا بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم. كان يتذكر ما عاناه مع إخوانه من المستضعفين خلال رحلة تحدى مجتمع الشرك التى خاضوها مع النبى، ثم ينظر إلى الحال أيام عمر وعثمان، وكيف تمددت خريطة الإيمان لتشمل المزيد من البشر، والمواضع، وكذلك الثروات، ويقول: «إن إخوانى مضوا ولم يأكلوا من دنياهم شيئًا، وإنّا قد أينعت لنا ثمرتها».
لم يكن «خبّاب» راضيًا عن التحولات التى بدأت تضرب المجتمع المسلم مع تدفق المال من الأمصار التى تمددت إليها خريطة الإسلام، كان دائب المقارنة بين مشهدين: مشهد مصعب بن عمير الذى استشهد يوم «أُحد»، ولم يجد المسلمون ما يكفنونه به، ومشاهد الترف التى بدأت تظهر فى حياة المسلمين خلال فترة حكم عثمان. كان من الطبيعى أن يكون «خبّاب» أكثر ميلًا إلى نهج على بن أبى طالب فى الحياة، الرجل الذى يأخذ نفسه والآخرين بالقاسية، ولا تعجبه مشاهد الترف والخلود إلى متاع الحياة الدنيا. شأن «خبّاب» فى ذلك كان كشأن كل المستضعفين الذين تحركهم تركيبة نفسية ميالة إلى التمسك بالقيم والمثاليات، والزهد فى الحياة والغضب من السلوكيات الاستهلاكية، لذلك التف أغلبهم حول على بن أبى طالب وتحفظوا على أداء عثمان.
فى خلافه مع معاوية بن أبى سفيان انحاز «خبّاب» إلى على بن أبى طالب، وقاتل إلى جواره فى موقعة «صفين»، والأرجح أن الأمراض العديدة التى كان يعانى منها فى كبره أقعدته عن الخروج مع الخليفة ليشارك فى موقعة «النهروان» ضد الخوارج. وهى الموقعة التى عاد «على» منها لتبصر عيناه مشهدًا غريبًا، إذ وجد مجموعة من القبور بأحد المواضع فى الكوفة، استغرب «على» الأمر، فقد جرت العادة فيما سبق أن يدفن الناس موتاهم فى دورهم وأفنيتهم، سأل عن الأمر، فأجابه من حوله بأن «خبّابًا» قد توفاه الله، وأنه أوصى قبل وفاته بألا يدفن فى بيته، بل فى ظاهر الكوفة، ودفن الناس إلى جنبه. وقف «على» أمام قبر «خبّاب»، سرح قليلًا ثم قال: «رحم الله خبّابًا فلقد أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا، وابتلى فى جسمه أحوالًا، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملًا.. طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، ورضى عن الله عز وجل».
توفى خبّاب بن الأرت عام ٣٧ هجرية عن عمر ناهز الثالثة والسبعين، رضى الله عنه وأرضاه.