جورج البهجوري يستعيد كتاباته الأولى في ذكرى عيد ميلاده الـ90
صدر حديثًا عن مشروع ذاكرة الكاريكاتير بالتعاون مع الفنان المصري العالمي: جورج البهجوري، الطبعة الثانية من كتاب: بورسعيد، للفنان جورج البهجوري، الكتاب صدر بثلاث لغات العربية والفرنسية والإنجليزية، ويقع في 76 صفحة من القطع الكبير، وأعده وقدم له الباحث والكاتب المتخصص في تاريخ الكاريكاتير المصري عبد الصاوي .
جاء ذلك في ظل احتفال جورج البهجوري ب 90 عاما على ميلادة، الذي جاء مساء أول أمس الثلاثاء الموافق ال13 من ديسمبر الجاري، ويستعيد البهجوري بهذا الكتاب رحلة الألق الأولي مع الفن والحرب والحياة .
وجاء في تصدير الكتاب للكاتب والباحث عبد الله الصاوي كانت بورسعيد رمزًا للبطولة والوطنية في الوجدان المصري والعربي محليًّا ودوليًّا، وذلك في لحظةٍ من ذاكرة الزمن، وكذلك رمزًا للصمود والتحدي في ذاكرة الشعوب الحرة عالميًّا. ومن ثَمَّ كان التغزل في المدينة، وكأنها سيدة جميلة تُبهر كل من يراها بصمودها ومواقفها لا بجمالها وبهرجتها. ولذلك حينما صَدَّر صلاح جاهين (1930 – 1986)، حديثه لكتاب كاريكاتيري، صدرت طبعته الأولى عن دار الفكر بالقاهرة في فبراير عام 1957 باللغتين العربية والفرنسية، وقد تحدث بلسان الريشة وقلم الكاريكاتير، عن كفاح وصمود المدينة التي وصفها وصفًا نبيلاً قائلاً:
يا أم البطل يا أم الشهيد
يا لابسة توب أحمر جديد
يا بورسعيد
اسمك نشيد
وتبعت تلك الرباعية الخالدة لصلاح جاهين، مقدمة خالدة -هي الأخرى- بقلم مكتشف المواهب الفنان الراحل: حسن فؤاد[1]، الذي أتاح الفرصة أمام عَددٍ من الموهوبين على مدار عقود؛ لينشروا إبداعاتهم من بوابة نادي الرسامين الذي كان يشرف عليه بمجلة صباح الخير منذ العدد الأول للمجلة عام 1956.
يقول حسن فؤاد في مقدمته التي هي أقرب للدراسة: "...ويقف الكاريكاتير كفنٍ مصريٍ متميز المعالم على قائمة الفنون التشكيلية التي استطاعت أن تصل إلى مستوى عالمي، وأن تصبح أكثر الفنون المصرية التصاقًا بالسياسة ورواجًا بين الجماهير. ولقد سجل هذا الفن مدى تطور الفكر الوطني منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى الآن، واحتضنها وليدة صغيرة تنادي بالاستقلال عن طريق الدستور والحياة النيابية، وشب معها وهي تحاول التخلص من النفوذ الإنجليزي المتغلغل في السياسة الداخلية، ونما وتطور حتى أصبح كما هو عليه الآن، معبرًا عن فكرة السيادة لمصر في أرضها، ونظامها، ومنافعها، واقتصادها، وحريتها في الارتباط مع سائر الشعوب بلا وساطة. وقد استمر هذا الفن يحمل راية الحركة الوطنية دون تلاعب أو تردد، وتوالت حملات السخط ضد الاستعمار الرامية إلى الدفاع عن حرية البلاد وسيادتها، ولعل هذه الصفة هي من أهم مقومات الكاريكاتير المصري".
ويتابع وكان للكاريكاتير المصري أيضًا فضل إشاعة فن الرسم بين الجماهير كلغة جديدة تحمل روح السخرية المصرية التي نعتبرها بحق إحدى مفاخرنا القومية؛ فنحن شعب سريع البديهة، حاضر النكتة، صبور، نضحك أسرع مما نبكي، ونحاصر أعداءنا بالنكات اللاذعة، فنهتك أساليبهم، ونعدم تأثيرهم بين الناس. ومن هنا كانت النكتة المصرية الشفاهية قديمًا هي أروج الأشكال الفنية انتشارًا بين جماهير المصريين وأكثرها تداولاً للتعبير عن رأينا فيما نراه ولا نستطيع له دفعًا".
من هنا تكمن أهمية إعادة طبع هذا الكتاب -الذي شاء القدر أن أعثر عليه صدفةً بعد أن كنت على وشك أن أفقد الأمل بين أروقة دار الكتب المصرية بعد رحلة بحث استمرت لأكثر من خمس سنوات- حيث نجح چورج البهجوري من خلاله أن يوثق ولأول مرة بالكاريكاتير الملحمة الوطنية لأهالي بورسعيد ضد قوات العدوان الثلاثي الغاشم عام 1956، وشكل انطلاقة قوية لفَّنان شاب لم يتجاوز عمره وقتئذٍ الخامسة والعشرين؛ سخَّر ريشته ليوثق لنا بالرسوم الكاريكاتيرية واحدة من أهم ملاحم المقاومة الشعبية المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين.
وهذا بدوره لا يبتعد كثيرًا عن الأدوار التي لعبها الكاريكاتير كونه كان أداة فاعلة ومؤثرة في التاريخ المصري لفترة طويلة، في كل المعارك والنضالات الوطنية منذ نهايات القرن التاسع عشر، وخلال النصف الأول من القرن العشرين. ومن ثم جاء چورج البهجوري ليرسخ لتراث من سبقه، ولكن بأسلوب فني تميز وتفرد به عن أقرانه.
ونجح چورج البهجوري في أن يرصد لنا بذكائه وخفة ظله المعهودة، في هذا الكتاب بخطوط بسيطة وكلمات قليلة قصة بورسعيد، وبطولات أهلها التي كانت وقتها حديث العالم أجمع، كما نجح في استغلال ريشته، لاختزال صمود وكفاح شعب بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي، ليقدم لنا صورًا مبهرة من قلب المعركة، وإجمالاً للقول بقي أن نقر بأن تأثير بورسعيد تجاوز الإطار الوطني لتتحول بورسعيد إلى بداية تغيير كبير في موازين القوى الدولية؛ إذ كانت دليلاً على وصول الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية إلى مرحلة النهاية، وبداية تغيير كبير في ميزان القوى الإقليمية، حيث تحولت إسرائيل إلى لاعب مهم فى المنطقة. ومن العلامات الفارقة على تحول الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية إلى قوتين عظميين تدور حولهما دول العالم.
واحتفالاً بالذكرى السادسة والستين لانتصار الجيش، والشعب المصري، وأهالي بورسعيد البواسل على قوات العدوان الثلاثي، وعيد ميلاد بهجوري التسعين؛ يُسعد مشروع ذاكرة الكاريكاتير، التابع لمؤسسة عبدالله الصاوي للحفاظ على تراث الكاريكاتير المصري، والفنان: چورج البهجوري، أن يقدما الطبعة الثانية من كتاب بورسعيد لكل عُشَّاق ومحبي فن الكاريكاتير المصري وچورج البهجوري في مصر والعالم؛ وذلك وفقًا للإخراج الفني والغلاف الخارجي للطبعة الأولي، دون أي إضافة أو حذف باستثناء تصويب الأخطاء اللغوية والمطبعية التي وردت بالطبعة الأولى. وقد حرصت في الطبعة الجديدة، على ترجمة الكتاب للغة الإنجليزية بالإضافة إلى اللغتين العربية والفرنسية؛ حتى تتحول الرسالة التي يتضمنها الكتاب لرسالة عابره للشأن الثقافي المصري، مخاطبة الوجدان الغربي، وأعتقد أن هذا الكتاب قد أسهم في تقديم قراءة جديدة ومُنصفة لملحمة بورسعيد.