دينا حشمت عن رواية «أقفاص فارغة»: نص يسعى لاسترداد سعادات الطفولة المفقودة
فازت رواية «أقفاص فارغة» للدكتورة الأديبة فاطمة قنديل بجائزة نجيب محفوظ للأدب عام 2022 عن دار نشر الجامعة الأمريكية.
وجاءت كلمة الناقدة والأكاديمية دينا حشمت عضو لجنة تحكيم جائزة نجيب محفوظ بالجامعة الامريكية كالتالي: تستهل فاطمة قنديل "روايتها" (حسب تصنيف النص على غلاف الكتاب) بوصف علبة شوكولاتة "كادبوري" فارغة تحتوى على أوراقها الشخصية، تقول عنها "إن سعادة ما ظلت تسكنها". تستدعي العلبة ذكريات الطفولة السعيدة بتفاصيلها البريئة لدى الراوية، كما تستدعي لدى قراء جيلها والأجيال التالية ذكريات زمن السبعينيات.
تسحبنا الراوية رويدًا رويدًا إلى عالمها الحميمي، حيث يتضافر الخاص والعام بهدوء. فـ"الرواية" أو "السيرة الذاتية" (كما يشير العنوان الفرعي)، هي سيرتها هي، قصة البنت التي كبرت وسط أخوين أنانيين، ولم تستقر على هويتها كشاعرة إلا بعد تردد وتخبط، كما أنها قصة طبقة متوسطة تكافح من أجل البقاء، متخذة مسارًا تشبيهيًا بتلك التي اختارها أخوها رمزي في هجرته إلى السعودية.
تكمن خصوصية نص فاطمة قنديل في طريقة روايتها لهذا "العالم" المشترك، وبالذات في التزامها الصدق في وصف كل ما هو غير مطابق لصورة العائلة المحترمة من الطبقة المتوسطة: الحرج من أب يمشي سكرانًا في الذي يربطها بزوجة أخيها، دناءة الخال وعلاقة أمها المركبة به، الخسة في الحسابات المالية بين الأخ المهاجر ميسور الحال وأخته العاطلة عن العمل. كما لا تتردد فاطمة قنديل في رواية تفاصيل رعايتها لجسد أمها المريضة، وتفاصيل الموت المقبضة، حين ترى "الدود ينهش ما تبقى من لحم الجرح على الضمادة".
لكن نصها يسعى أيضًا لاسترداد سعادات الطفولة "المفقودة" وسحر علاقات الحب التأسيسية من خلال التواطؤ الصامت والحنان المكتوم الذي يربطها بأمها.
تقوم بذلك دون أن تنزلق إلى تمجيد شخصية الأم، فوصفها لها لا يخلو من تأمل في خيباتها الصفيرة؛ كما لا تكتم مشاعرها الملتبسة عندما تدرك أن موت أمها هو في آن واحد لحظة تحررها من القيد اللامرئي الذي يربطها بسرير المريضة.
استطاعت فاطمة قنديل، بحساسيتها كشاعرة، إثراء سردية السيرة الذاتية النسائية العربية، مضيفة إلى أصوات أولئك النساء اللاتي سبقنها، سواء صنفت نصوصهن على أنها سير ذاتية أو لا، من فدوى طوقان في رحلتها الجبلية إلى مي التلمساني في دنيا زاد، مرورًا بلطيفة الزيات في أوراقها الشخصية. ما تضيفه إلى هذه السرديات، هو عدم التنازل عن الصدق في رواية علاقات العنف الكامنة تحت السطح في حياة أسرة عادية من الطبقة المتوسطة المصرية، علاقات القوة الجندرية.
فلا أخ كبير ليحمي أخته من المنظومة الأبوية، ولا نضال مشترك مع رفاق الدرب، ولا زوج متفاهم ومساند، بل تصريح صادم من الراوية، عن أخيها رمزي: "لماذا، إذن، ظلت جثته تفطس، وتطفو طوال كل تلك الأعوام، بعد موت أمي، في قلبي، ولماذا لم أستطع أن أكتب كل ما أكتبه، الآن، إلا بعد أن عرفت بموته"؟
تستدعي هذه الجرأة في تشريح المشاعر العائلية أصوات كاتبات وفنانات ومناضلات من أجيال أصفر ارتفعت مؤخرًا داعية إلى نهاية عصر الكتمان بدعوى الحفاظ على واجهة العائلة. ولا يعني تجاوب نص قنديل مع هذه الأصوات أن حياتها ستصبح "قولًا مأثورًا"، أو "درسًا، أو عبرة"- وهو ما "يصيبها بالغثيان"، على حد قولها، بل يعني أن نصها استطاع أن يتجاوز خصوصيته الشديدة، ليدعو إلى التأمل في العلاقات العائلية. يعني أن لفتها الحرة الدقيقة، أو كما تصفها هي "العارية تماما"، التي "لا ترتدي ما يستر عورتها من المجازات"، والتي نجحت في أن تفرض نفسها على اللجنة بهدوء، ستستطيع أيضًا نهش مخيلات قرائها، وفرض لحظات من التأمل الشفاف في ذلك المزيج من الود والعنف والألم والتواطؤ الذي يشكل العلاقات العائلية.