من هي رسولة المحبة الإلهية التي أحيّت الكنائس الكاثوليكية ذكراها اليوم؟
تحتفل الكنيسة الكاثوليكية في مصر، بذكرى الطوباوية كليليا ميرلوني، رسولة المحبة الإلهية، ووفقًا لدراسة أعدها الأب وليم عبدالمسيح سعيد – الفرنسيسكاني، فاسمها "كليليا" وهو اسم من أصل لاتيني ويعني "الشهيرة". وُلدَت في 10 مارس 1861م، بمدينة فورلي شمالي مملكة إيطاليا، لأبوين هما "چواكينو ميرلوني" و"تيريزا براندينيلّي".
توفيت والدتها وهي بعمر الثالثة، وأصبحت في رعاية جدتها لأمها. تزوج الأب مرة أخرى من امرأة صالحة تُدعى "ماريا چوڨانّا بويري". عاملت الطفلة بتحنن، وشاركت الجدة في تربيتها تربية راقية وإيمانية.
كان والدها مُنهمكاً للغاية في عمله ووضعه الاجتماعي والاقتصادي المتصاعد، مما أدى به إلى تخليه عن الإيمان وأصبح ماسونياً ومعادياً للإيمان المسيحي والإكليروس، لأنه رأى في ذلك جنياً للمصالح وتنامياً قوياً لنفوذه..
كانت كليليا ضعيفة الصحة، لكن والدها أصرّ على أن تواصل التعليم في أرقى المدارس، حتى تتمكن عندما تكبر من إدارة ممتلكاته. فالتحقت بمدرسة خاصة في بلدتها حيث تعلمت المهارات الأساسية مثل القراءة والرياضيات بينما تعلمت أيضاً مهارات الخياطة وأجادت العزف على البيانو.
بدأت تُظهر كليليا رؤى وأفكار تتنافى مع أفكار والدها ومبادئه وخطته لحياتها، ووجدت نفسها أكثر انجذاباً لحياة الصلاة والعزلة أكثر من الحياة الاجتماعية النخبوية وإدارة الأعمال العائلية التي أرادها والدها لها. وشعر الأب أن هذا هو تأثير جدتها لأمها التي ربّتها على التعاليم المسيحية، ولم احتدم الخلاف بين الأب وإبنته قام بطرد الجدة من المنزل حتى يتوقف تأثيرها على ابنته. كذلك دبت الخلافات بينه وبين زوجته لنفس الأسباب، فهجرت منزله لتعود إلى عائلتها.
خلال مشاداته معهن عبّر الأب عن عدم إيمانه بالمسيحية، وبدأ يستهزئ بكل القيم والتعاليم المسيحية. في تلك الفترة قررت كليليا أن تُكفِّر عن خطايا أبيها، بالصلاة وتقديم الإماتات من أجل خلاص نفسه. فاتجهت إلى غرفتها، وصلت كثيراً له حتى ينال غفران الله، ووضعت حصاة في حذائها تسير بها متألمة كتعويض عن خطايا والدها.
توفّيَ الأب عندما أصبحت كليليا بعمر الرابعة والثلاثين. بعد أن نجحت هي في أول رسالة في حياتها وهي إعادة الأب للإيمان والتوبة قبيل وفاته.
إلتحقت كليليا بجمعية بنات القديسة مريم للعناية الإلهية، وقد كانت في تلك الفترة جمعية خدمية حديثة العهد مقرها في مدينة كومو بإقليم لمبارديا، أسسها الأب "لويجي جوانيلاّ" وتُعنى برعاية الفقراء والمُهمشين والمشردين.
وعندما نمت الحاجة إلى إنشاء جمعية مُكرَّسة لقلب يسوع الأقدس، فقد أسستها هي عام 1894م على نفقتها الخاصة، في ڤياريجو بإقليم توسكانا، برفقة صديقتيها "إليسا بيندرزيني" و"چوزﭘبينا دينجنايم". افتتحت كليليا مدرسة للأطفال الصغار وبيتاً للمسنين وداراً للأيتام والمشردين، على نفقتها الخاصة، بكل السخاء لأنها كانت تعلم أنها مُوكلة على نعمة الثراء، ولابد لها من استخدامها لخير إخوتها البشر.
كان انشغالها بالمهمات الخدمية أكبر من متابعتها لشئون مؤسساتها الاقتصادية التي ورثتها عن أبيها، أما ميراثها فكان بالنسبة لها مجرد مصدر للإنفاق على الخدمة، لذلك فقد ائتمنت المدير المالي للشركة، الذي لم يكن أهلاً لهذه الأمانة، وأحدث كارثة مالية وضعت المؤسسة موضع استدانة وشبُهات، وتحوُّل الرأي العام للطعن في ذمتها المالية، وسُرعان ما أُخبِرَت بأن حياتها مُهددة، وكان عليها أن ترحل عن ڤياريجو إلى مقر الجمعية في مدينة بروني.
فقدت كليليا سمعتها وتعرضت للتشكيك والإذلال، لكنها لم تفقد سلامها لأنها دائماً على حد تعبيرها "لاجئة في قلب يسوع". وبرغم اشتداد الألم النفسي، إلا أن الأزمة أيضاً قد تخلق فرصاً أفضل وطرقاً جديدة لنجاح الخدمة، فقد كان ارتحالها إلى بروني سبباً في لقائها بـ "چوڤاني باتيستا سكالبريني" أسقف پيتشنسا في يونية1900م. كان لقاءً على مستوى روحي عال، قدَّر فيه الأسقف سكالبريني موقف كليليا وأنها تعاني ظُلماً كبيراً، كما اطلع على مشروعها الروحي والخدمي، وأجاز قوانين جمعية القلب الأقدس الروحية وأذن لها بممارسة نشاطها في إيبارشيته.
حماس الأسقف سكالبريني لنشاط جمعية القلب الأقدس، وأشار على كليليا بأن يمتد نشاط إلى الأمريكتين. وكانت أول بعثة إرسالية للجمعية مكونة من 6 مكرسين إتجهوا نحو ساو ﭘاولو بالبرازيل، غادر أربعة آخرون في أكتوبر 1900م إلى بارانا سانتا فيليسيداد بالبرازيل أيضاً، بينما أبحر ستة آخرون في 1902م نحو بوسطن بالولايات المتحدة. وبحلول عام 1903م كانت الجمعية قد أنشأت حوالي 30 مقراً، تخدم به 200 أخت مكرسة.
بوفاة الأسقف سكالبريني الداعم الروحي والخدمي لكليليا عام 1905م، عادت مكانتها إلى التراجع بين أعضاء الجمعية، مما اضطرها للإرتحال إلى أليسّاندريا شمالي إيطاليا. لم تعد الأم كليليا تُستشار في الأمور المتعلقة بإدارة الجمعية وقرارتها رغم كونها الرئيسة، وتغير اسم المعهد دون علمها، كما تم تغيير بعض البنود في قانون الجمعية التكريسي، كما بقيت المكائد وتشويه السُمعة والذمة المالية مستمرة من داخل الجمعية إلى الدوائر الڤاتيكانية، إلى أن تقرر عزلها عن الرئاسة العامة للجمعية، واستبدالها بـ "مارشلّينا ڤيجنو".
بعد عام أعيد تعيين الأم كليليا، ثم أُجبِرت مرة أخرى على الانسحاب من منصبها بمرسوم صادر عن مجمع الرهبان المقدس في 13 سبتمبر 1911م.
طلبت كليليا مراراً إعادة النظر في قضيتها، لكنها لم تتلق أي إجابة. في غضون ذلك، نما التحزُّب والخلاف في الجمعية وكان التيار الأكبر من المكرسات ضدّها، فطُرِدَت من المقر الرئيسي للجمعية. رأت كليليا أنها أصبحت مصدر للخلاف والشقاق بالجمعية، وفضَّلت ترك كل شيء، على أن ترى الجمعية التي أسستها للرسالة تتهاوىَ بسبب الخلافات
فقررت أن تطلب إعفاءها من النذور التكريسي للجمعية عام 1916م، فكان لها ما أرادت. كان قد تم شحن الدوائر الڤاتيكانية ضدّها لدرجة دفعت البابا "بندكتس الخامس عشر" إلى الثناء على قرار العزل ورغبتها في إعفاء نفسها من نذر التكريس في مرسوم باباوي عام 1921م
ظلّت بعد كل هذه الأحداث في فترة من العُزلة والحزن والصمت، أصابتها بالمرض الجسدي والهَمّ النفسي لمدة 12 عاماً، لكنها لم تنال من إيمانها ورغبتها في السير على درب القداسة، فقد كانت فترة نضج روحي، وثراء تأملي، وقد أسمتها فترة "اللجوء إلى واحة قلب يسوع".
في 1920م، طلبت كليليا العودة إلى نذرها التكريسي بالجمعية وتوسلت في رسالتها إلى البابا، لكنها عانت حوالي ثمانية سنوات، فسُمِحَ لها بالعودة إلى مقر الجمعية بروما عام 1928م، تم الترحيب بعودتها بشكل مفاجئ وغير متوقع، لدرجة دفعت رئيسة الجمعية مارشلّينا ڤيجنو أن تكتب مقالاً في الرسالة الدورية للجمعية تقول فيه تعبيراً عن سعادتها بعودة كليليا: "لقد تحققت أخيراً رغباتنا المتّقِدَة .. الأم الحبيبة مؤسِّسَة جمعيتنا، مُؤسِّستنا، تعود إلينا في السابع من هذا الشهر. لقد أعاد القلب الأقدس إليها صحتها حتى تسعد معنا هنا بالمقر الرئيسي، محاطةً بحب بناتها، ذلك السلام والهدوء الذي تحتاجه كثيراً، بعد الكثير من التجارب والأحزان والآلام".
عادت الأم كليليا إلى جمعيتها مُسنّة، وضعيفة للغاية، قضت العامين الأخيرين من حياتها في غرفة بعيدة عن مكرسات الجمعية، لكنها متصلة بغرفة علوية صغيرة للكورال تطل على مذبح الكنيسة. تميزت هذه السنوات بالصلاة الشديدة والمحبة الرقيقة لكل من عرفتهم، مع تقدمة كاملة وتامة لقلب يسوع الإفخارستي من أجل خلاص النفوس
كانت أبرز علامات قداستها هي بساطتها الشديدة في قبول الإساءات مع قدرتها على المغفرة. كيف لا وهي التي تناجي قلب يسوع يومياً بل في كل دقيقة بمنتهى الحرارة والشغف أن يجعل قلبها مثل قلبه! لقد تطهَّر قلبها بنار الحب الإلهي لدرجة دفعتها لتحمُّل الظلم والجحود والافتراءات التي لا أساس لها من الصحة، دون أن تعاتب أحداً، ودون أن تحتفظ بأي ضغائن
حصلت الجمعية على الإجازة الكنسية عام 1931م، في عهد البابا "ﭘيوس الحادي عشر"، كما تم الموافقة على قوانينها التكريسية عام 1941م، على عهد البابا " ﭘيوس الثاني عشر". ومازالت الجمعية تؤدي رسالتها حتى يومنا هذا بآلاف من المكرسات على مستوى العالم وعشرات المقرات والمدارس والمستشفيات ودور الأيتام والمسنين.
بعد حياة ملئها الصلاة والتضحية وتحمُّل الظلم كإماتة، من أجل نجاح الخدمة، رقدت كليليا في الرب يوم 21 نوڤمبر 1930م، عن عمر ناهز التاسعة والستين.
في البداية دُفِنت في شميتيرو ديل ڤيرانو (مقابر ڤيرانو) في روما، ثم تم استخراج الجثمان عام 1945م، ووُجِد في حالة جيدة، لتُنقل لضريح بالمقر الرئيسي لجمعية رسولات قلب يسوع الأقدس بروما
ولم يجد كل معاصريها جملة تصف هذه الإنسانة أنسب من الجملة التي نُقِشَت على قبرها: "لقد كان قلب يسوع الإلهي نور وجودها. والفقراء، المظلومون، البائسون هم أكثر ما يشغلها. عاشت في نقاء وبساطة وإحسان".
عام 1990م، حصلت على لقب "خادمة الرب"، كما حصلت من مجمع دعاوى القديسين .
تم إعلانها طوباوية عن يد البابا فرنسيس فى 3 نوفمبر عام 2018م.