زهرة البلقان (2).. تاريخ صاخب وثقافة فريدة.. كيف تلمس "الهوية" في بلغاريا؟
لايكفي تحية واحدة، تستحق تحيات متتالية.. تلك المدن الصغيرة.. الغير مبهرجة.. التي لا تتصدر قوائم المسافرين، لا تلفت انتباه كل العالم، لكنها تمنحك سعادة خالصة!
"صوفيا".. ليست في شهرة روما أو برشلونة أو برلين، لكن بها شيء فريداً، ستلمسه منذ اللحظات الأولى، وستتأكد منه منذ الجولة الأولى في شوارعها الهادئة والنظيفة.. وشيء آخر سيتطور وستدركه مع مرور الأيام، وهو "الهوية البلغارية".. سأحاول أصفها كما رأيتها بعيوني.
المحطة الأولي
مثل الدول الأخرى في شبه جزيرة البلقان، لدي بلغاريا مزيجًا من الثقافات الشرقية والغربية، والاختلاط واضح في مطبخها وهندستها المعمارية وتراثها الديني، هذا ما تكتشفه منذ الوهلة الأولى، ولكن السؤال الذ سيقفز إلى ذهنك هو إلى أي نوع من الدول الأوروبية تنتمي بلغاريا؟
بلغاريا، تضم أكثر من 250 منطقة حضرية أكبر و 4000 قرية صغيرة، ومجموعات من المزارع، وفي أعماق الجبال، حفنة من الأديرة التاريخية. تعود جذور العديد من المدن البلغارية إلى العصور الوسطى وبعضها في العصور القديمة، على الرغم من إنشاء عدد كبير من المباني الحديثة في العصر الشيوعي من منتصف إلى أواخر القرن العشرين، على الرغم من ضغوط النمو السكاني في المناطق الحضرية، فإن العديد من المدن البلغارية تحافظ على سحرها القديم وغنية بالآثار الثقافية، ببساطة هي لديها ما تمنه لك كـ “سائح”.
الشوارع هادئة، والبنايات بعضها على طراز الحقبة الشيوعية، تلك البنايات المستطيلة الكبيرة ذات النوافذ الصغيرة، والملونة والمنقوشة على نوافذها، وبنايات أخرى على الطراز العثماني، لاعجب، فالدول تحمل تاريخها في شوارعها وبناياتها، وتحكي من خلالهم حكاياتها للزائرين، ما كان يشغلني هو الحكايات التي لم "تحكها بنايات صوفيا".
بعد اكتشاف الشوارع، ستكون بوابتك الأولى لاكتشاف "صوفيا"، هي اللغة البلغارية، وهي واحدة من أقدم اللغات الأوروبية المقننة (القرن التاسع الميلادي) التي بقيت حتى يومنا هذا. تنتمي اللغة البلغارية إلى عائلة اللغات السلافية الجنوبية. إلى جانب اللغة الصربية الكرواتية والسلوفينية ؛ ترتبط ارتباطًا وثيقًا باللغة البلغارية بالمقدونية، وتشبه الروسية.
البلغارية مكتوبة بالأبجدية السيريلية، والبلغار منهم من يتحدث الإنجليزية وآخرين الإيطالية ومنهم من يتحدث الروسية، رغم اللافتات بالبلغارية في كل مكان لن تضل أبداً، ستصل إلى وجهتك، إذا لم تفهم من اللافتات سيساعدك البلغار.
الشعب البلغاري
عرقياً، السكان متجانسون إلى حد ما، يشكل البلغار أكثر من أربعة أخماس إجمالي عدد السكان الذي يبلغ حوالي (9 مليون نسمة)، تاريخياً هم منحدرين من القبائل السلافية التي استقرت في الجزء الشرقي من شبه جزيرة البلقان.
الثقافة التراقية، التي تعود جذورها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وشكلت مجموعة عرقية أساسية تشكل منهم البلغار، هم الذين أسسوا الدولة البلغارية الأولى عام 681، اندمج البلغار والسلاف في شعب موحد أصبح يعرف باسم البلغار.
لدى بلغاريا طوائف أخرى، منهم اليشكل الأتراك، هم أكبر طائفة في بلغاريا، حوالي عُشر المواطنين ويعيشون في بعض مناطق الشمال الشرقي وفي منطقة جبال رودوبي الشرقية، والغجر هم طائفة أخرى، وكذلك بضعة آلاف من الأرمن والروس واليونانيين (معظمهم في المدن)، بالإضافة إلى الرومانيين والتتار (معظمهم في القرى)، وحوالي 400 شخص يعتبرون أنفسهم من المقدونيين، بينما تراهم بلغاريامجموعة إثنية منحدرة من البلغار.
البلغار هادئون – كما عرفتهم- ضحكاتهم ليست مرتفعة مثل الإيطاليين، لا تسمع تعليقات من رجال في الشوارع مثل القبارصة، ولا يسهل إستثارتهم وإغضابهم مثل الأتراك، هم هادئون، ربما أقرب إلى الألمان.
تاريخ صاخب
عند الحديث عن تاريخ بلغاريا سيُكتب ويُكتب، قبل إنشاء الدولة البلغارية، كان لدى إمبراطوريات روما القديمة واليونان وبيزنطة تواجدًا قويًا، انبثقت بلغاريا من قرون من الحكم العثماني، وحصلت على استقلالها في أواخر القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من الانجذاب نحو قوى المحور في الحرب العالمية الثانية، فإنها أصبحت قريبة الاتحاد السوفيتي بحلول منتصف القرن. كان لهاذا أثر كبير على بلغاريا، تغير فيها كل شيء من استخدام الأراضي وممارسات العمل إلى الدين والفنون.
عندما سقطت الحكومات الشيوعية في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، تحررت بلغاريا فجأة من المجال المغناطيسي للسوفيت وانجرفت إلى حقبة مابعد الشيوعية.
اليوم بلغاريا جزءاً من تحالف الغرب، أصبحت بلغاريا عضوا في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عام 2004 والاتحاد الأوروبي (EU) في عام 2007. حيث يشارك أعضاء الاتحاد الأوروبي في الجزء الأكبر من التجارة البلغارية.
في أحد الجولات في مدينة صوفيا (تجري العاصمة جولات مجانية للسياح)، قال المرشد السياحي وهو يتحدث عن التاريخ ان الشيوعية انتهت من بلغاريا، لكن هناك (فئة قليل أغلبهم كبار السن) ربما يشتاقوا لتلك الحقبة، أوضح المرشد: هؤلاء من استفادوا من الحكم الشيوعي، لكن بلغاريا الجديدة والأجيال الجديدة تريد شيئاً آخر.
ثقافة خاصة
الثقافة البلغارية، هي جزء حيوي من الهوية البلغارية، ستلمس احترام بلغاريا للثقافة والفنون، الثقافة البلغارية المعاصرة هي مزيج حيوي من التقاليد الشعبية التي تعود إلى ألف عام وثقافة أكثر رسمية لعبت دورًا حيويًا في ظهور الوعي الوطني في ظل الحكم العثماني وفي تطوير دولة حديثة.
لأن البلغار سكان متجانسون إلى حد كبير، فإن درجة الاختلاف الثقافي حتى على المستوى الإقليمي صغيرة، هوية واحدة تحركهم، وثقافة ممزوجة بالماضي والحاضر ستلمسها في كل مكان.
تشجع الدولة التنمية الثقافية على جميع مستويات المجتمع وتدعم نشر الثقافة، لا سيما من خلال المدارس والمكتبات والمتاحف والنشر والإذاعة والتلفزيون الحكوميين. بدأت فرق المسرح وشركات الأوبرا والأوركسترا العديدة في بلغاريا في الاندماج معًا في وحدات أكبر وأكثر تنافسية في التسعينيات.
لا يوجد شارع يخلو من مكتبة راقية تضم مئات الكتب ومكتظة بالقراء، ولا يخلو ميدان كبير من بيت ثقافي سواء مسرح أو الأوبرا أو معارض فنية، اللوحات والرسومات في الطرقات، والموسيقى البلغارية تشدو في المقاهي، نادراً ما تسمع أغنيات بلغات أخرى، فقط البلغارية في كل مكان.
الهوية البلغارية
ما تلمسه، هو أن البلغار يعتزون بهويتهم، يمجدون تاريخهم، يفهمون مكامن قوتهم، ولديهم اعتزاز فريد بكل ماهو بلغاري، يحبون لغتهم، وثقافتهم، رغم الظروف الاقتصادية، والعقبات التي تواجهها دول البلقان، إلا أن البلغار يعتزون بكونهم بلغاراً. وقدر اعتزازهم بأنفسهم ستقدرهم.
في الوقت نفسه، هم يحترمون الغرباء، ويعاملون السياح بلطف، قد لايكونوا منفتحين بشكل كبير مثل دول شرق المتوسط، إلا أنهم يقدمون المساعدة، ولايتلاعبون بالأسعار، وإذا عرفوا إجابة سؤالك أخبروك وإذا لم يعرفوا لن يخدعوك، والأهم من ذلك أنهم على عكس دول العالم، عندما يحركون رؤوسهم بنعم ولا ..عكس كل شعوب العالم، فالإيماءة يميناً ويساراً تعني نعم، والإيماءة أعلى وأسفل تعني لا!