فى ذكرى ربع قرن على رحيله| أحمد بهاء الدين.. كاتب فى قلب المعركة
وصف طه حسين بصاحب التقلبات الفكرية الحادة.. والعقاد بعدم الخلق الفنى
توفيق الحكيم مشكلته مثل المخرج الموهوب الذى يصنع النجوم فتكون عقدته أن يكون ممثلًا
يرى أن أفضل من كتب فى عروبة مصر هو لويس عوض
لن نعيد الحديث عن موضوع العروبة وانتماء مصر، لأنه موضوع طويل «هل نقول ممل؟» لكن بهاء أخذها كمدخل لشرح «هل نقول تشريح؟» هؤلاء الكبار العظام، ومع كامل الاحترام لهم ولمقامهم لكن- كما يقول بهاء- «إن إحدى العادات السقيمة التى جرى عليها كتابنا هى المجاملة الشخصية، فإن لم تكن المجاملة فإن بديلها هو المهاترة والعداء»، ويؤكد: «المهاترة لا يجوز أن يكون لها مكان، ولكننا أيضًا نريد وضع الحقيقة فوق المجاملة».
وكما يقول بهاء، فإن طه حسين نادى زمنًا بأن مصر بلد «بحر متوسطية» وأن جذورنا أقرب إلى اليونان القديمة، ثم تحوّل إلى الكتابات الإسلامية والاهتمام بالتراث دون إهمال لتراث الغرب المتقدم، وعاد ورأى أن انتماء مصر هو إلى الأمة العربية، فلما وقع الانفصال كتب أسوأ مقال فى حياته، وكان عنوانه: «بَطر»، ولم ير فى الأمر كله سوى أن مصر «تفضلت» على سوريا بكذا وكذا، ومضى يعزف نغمة انعزالية غير عروبية حادة.
شكل ذلك فى الوقت الذى شهد له الجميع وأقروا بجدارته بلقب: عميد الأدب العربى.
أما توفيق الحكيم فإن مشكلته مثل مشكلة «المخرج» الموهوب الذى يرى نفسه يصنع ويحرك النجوم فتكون عقدته أن يكون ممثلًا، أو «الصحفى» الذى يكون قريبًا من السلطة وأنه يريد أن يكون سياسيًا.
وفى رأى بهاء أن الحكيم سيد المسرح فى اللغة العربية منذ كتابتها حتى الآن، وكاتب قصة نادر، وصاحب أسلوب يستخدم الكلمات كما يستخدم الصائغ الأحجار الثمينة، لكنه «حين يصور نفسه فى كتاباته يحب أن يصورها فى صورة راهب الفكر»، والفكر شىء آخر، لأن الحكيم «فنان» وليس مفكرًا، وهذا لا ينتقص من قدره.
«إن الفنان مثقف جدًا، ولديه فيض من الخواطر والأفكار، لكنها على الأغلب انطباعية، وقوالبها فى ذهن صاحبها دون أن يدرى، فنية وليست فكرية».
ولكن ما هو الفرق بين الفنان والمفكر؟
يقول بهاء: المفكر هو الذى أخذ نفسه فى مرحلة تكوينه بقسوة شديدة، ونظام عقلى صارم، بحيث يتوافر لديه مع الزمن بناء فكرى متكامل، يقف كله أو ينهار كله، وليس مجموعة أفكار متناقضة. المفكر هو الحساب العقلى الدقيق والإلمام بكل جوانب الموضوع، الذى يتصدى له، فلسفى أو اجتماعى أو سياسى، بحيث تصبح له وجهة نظر متكاملة فى الحياة والأحداث والشخصيات، وقد يغير رأيه، ولكنه يغيره بنفس الجهاد الشاق، والانضباط العقلى الشديد، وليس قفزًا من غصن إلى غصن.
ويضرب بهاء مثلًا على ذلك بشخصية عباس محمود العقاد، فهو أقرب كتّابنا إلى صورة المفكر، حيث كان عقلًا شامخًا جبارًا، له منطق متكامل، يعالج به الأشخاص والأحداث، وزاوية ينظر بها إلى الكون، ويدافع عنها كما يدافع الأسد عن عرينه، لا يجرى وراء أى موضوع ولا يهمه أن يتقدم «زفة»، حتى لو رأى العالم كله غير رأيه.
أما الفنان فمن حقه أن يحلق ويرفرف بأجنحته بلا قيد، ويحط على أغصان من الحقيقة أو من الخيال، ويستشرف آفاقًا أسطورية، ومن حقه أن يناقض نفسه.
وهو ما نجده عند توفيق الحكيم، حيث إنه كلما أطلق صيحة وشعر برد فعل معاد لها، عاد إلى أوراقه القديمة أنه قال كذا وكيت، وهذا صحيح، ولكن إذا عدنا إلى تلك الأعمال نجد أنه قال كل شىء ونقيضه، وعبر عن كل رأى، وكل شىء فى إطاره جميل، ولكن كل شىء لا يضمن إطارًا أو توجهًا واحدًا، وهذه طبيعة الفنان.
ويخلص بهاء من كل ذلك إلى أنه لا يمكن مناقشة توفيق الحكيم فى أى موضوع فكرى، لأنه فنان ومن حقه أن يكون طليقًا، وأن يغيب وعيه لسنوات «الإشارة هنا واضحة إلى كتاب الحكيم المثير للجدل عودة الوعى» ويعود بوعى آخر بعد سنوات، ومن حقه أن يستخدم كلمات القاموس السياسى بغير دقة ثم يعود فيفسرها على أشكال عدة.
ويلاحظ بهاء- بدقة- أن عباس العقاد كان- بعقليته الجبارة- يعانى من عقدة مقابلة، فهو كرجل فكر من الدرجة الأولى كانت لديه «عقدة عدم الخلق الفنى»، على نفس المستوى فى الشعر أو القصة، ولذلك كان يقلل من قيمة فن القصة كله.
ينتقل بهاء إلى نجيب محفوظ، الذى كان قد تعرض لقضية عروبة مصر فى أكثر من حديث صحفى «وكان يتشكك فى انتماء مصر العربى» ويقول: إن مشكلة محفوظ ليست فى كتاباته ولكن فى «أحاديثه الصحفية»، وهذه مشكلة عويصة، فهل يجوز مناقشة الأديب أو الكاتب فى آرائه التى يعرضها من خلال حديث صحفى؟.
هامش اعتراضى: كان الأستاذ هيكل يقول دائمًا إنه مسئول فقط عما يكتبه فى مقالاته أو كتبه، ولكنه ليس مسئولًا عما ينشر فى أحاديثه الصحفية، لأنه ليس مسئولًا عن طريقة كتابتها أو عناوينها أو حتى موضوعاتها، فتلك مسئولية الصحفى الذى أجرى الحوار.
فى نهاية مقاله يكتب بهاء بأن أفضل من كتب فى موضوع عروبة مصر هو لويس عوض، الذى ناقش قضايا عسيرة وحرجة بصراحة ودقة، ولقد فاجأ الجميع بأنه كان أكثرهم عروبة، لأنه بحكم عمله وتجربته أقرب إلى رجل الفكر والبحث فهو منطقى مع نفسه، وفى ذهنه بناء متكامل، نتفق أو نختلف معه، وإن كان ذلك- فى رأى بهاء- لا ينفى أنه فيما كتب ناقش بديهيات على أنها أمور ما زالت مستعصية.