العائلة «الجمالية» تنقذ «الخليفة»
تولى الخليفة المستنصر بالله الحكم بعد مقتل الحاكم بأمر الله. وقد ارتبط بعهده مجموعة من الأحداث الفارقة فى تاريخ هذه الدولة. لعل أبرزها صعود دور أمير الجيوش «بدر بن عبدالله الجمالى»، بالإضافة إلى الشدة المستنصرية، دعنا الآن نتوقف أمام موضوع المجاعة التى ضربت مصر فى عهد هذا الخليفة والتى عرفت بـ«الشدة المستنصرية،» ثم نعالج فيما بعد مسألة صعود أمير الجيوش «الجمالى» والتحول الذى أحدثه فى تاريخ الدولة الفاطمية.
عاشت مصر خلال النصف الأول من خلافة المستنصر «نحو سبعة عشر عامًا» فى رخاء وبلهنية، بسبب ما كانت تربحه نتيجة سيطرتها على ممرات التجارة العالمية من خلال البحر الأحمر، بالإضافة إلى الأموال الطائلة التى حصدها الخليفة نتيجة حصوله على الخُمس من كنوز مصر القديمة. وقد تستغرب إذا علمت أن المقصود بهذه الكنوز هو ما كانت تختزنه أرض مصر من آثار فرعونية، كان يتم الحفر والتفتيش عنها من خلال مجموعات متخصصة مهمتها استخراج الكنز ومنح الخليفة خُمس محتوياته. وقصة التفتيش عن كنوز الفراعنة قصة نظر إليها المصريون منذ القدم على أنها مسألة شرعية، وتمت التغطية عليها بغطاء دينى يثير العجب، لا محل هنا للخوض فيه.
شهد النصف الثانى من عصر المستنصر شدة اقتصادية عاتية عصفت بالدولة، بدأت بارتفاع حاد فى أسعار السلع الغذائية، بسبب خلو المخازن السلطانية، وسوء أداء الوزراء، كما ضعفت شخصية الخليفة وفقد السيطرة على وزرائه، فانتشرت الفوضى، وعم الغلاء، وتفاقمت المشكلة أكثر وأكثر بسبب انخفاض منسوب النيل لسبع سنوات عجاف متتالية، وسميت هذه السنوات السبع بـ«سنوات الغلاء العظيم».
وقد أدت هذه الشدة بالمستنصر إلى أن يفقد كل أملاكه، وسكن الجامع ولم يبق له إلا حصيرة يجلس وينام عليها، وبسبب عجز الحكومة عن تسديد مرتبات الجند، وخصوصًا من «الترك»، ثارت ثائرة هؤلاء، وعاثوا فى الأرض فسادًا فأضافوا إلى فوضى المجاعة فوضى أمنية شاملة، هزت هذه الأزمة الخلافة الفاطمية هزة عنيفة، وبدأ الضعف يدب فى أوصالها، واضطر الخليفة أمام ما حاق به وبالخلافة إلى الاستعانة بأمير الجيوش «بدر الجمالى» لكى يعيد الاستقرار إلى البلاد ويتعامل مع المشكلة الاقتصادية التى دهمتها، والفوضى التى عمتها، ومنذ هذه اللحظة بدأت حقبة «أمراء الجيوش» فى تاريخ الدولة الفاطمية.
وحقيقة الأمر أن صعود «بدر الجمالى» ارتبط بعجز الخليفة «المستنصر» عن مواجهة العسكر الترك الذين تولى قيادتهم «ناصر الدولة بن حمدان». فمع تفاقم الأزمة الاقتصادية فى البلاد أخذ «ناصر الدولة» يمارس ضغوطًا كبيرة على «المستنصر» وطالبه بدفع رواتب الجند الترك، واضطر الخليفة إلى بيع أملاكه كى يستطيع الوفاء بها، وبدأ «ناصر الدولة» فى الهجوم على «المستنصر»، وزاد على ذلك بأن استبد بالأمر من دون الأتراك، الأمر الذى استثار حفيظتهم فرفعوا إلى المستنصر شكاية يطالبون فيها بالتخلص منه، واضطر الخليفة فى نهاية الأمر إلى الاستعانة بمن بقى معه من الجند فى مواجهة «ناصر الدولة»، وتمكن من إلحاق الهزيمة به ليفر إلى البحيرة، وتتابعت محاولاته لمواجهة «المستنصر» بعد ذلك حتى انتهى قتيلًا على يد الأتراك، ومع ازدياد حدة الاضطرابات فى مصر بدأ المشهد يتهيأ لاستقبال أمير الجيوش «بدر الجمالى».
وبصعود «أمير الجيوش» إلى منصة الحكم إلى جوار الخليفة الضعيف «المستنصر» بدأ عصر جديد فى تاريخ الدولة الفاطمية أصبحت الكلمة العليا فيه لأصحاب السيوف، وصار «وزير السيف» هو صاحب الكلمة العليا فى مؤسسة الخلافة الفاطمية الواهنة، أخذ «بدر الجمالى» يستحوذ على أرفع المناصب فى الدولة، بالإضافة إلى «إمرة الجيش»، وأصبحت خيوط السلطة كلها فى أصابعه، وأدخل العديد من الإصلاحات فى الجهاز الإدارى للدولة، وأعاد تقسيم البلاد إلى مجموعة من الولايات «المحافظات بالمصطلح الحديث»، شملت قوص والشرقية والغربية والإسكندرية، بالإضافة إلى القاهرة والفسطاط، وهو الأمر الذى ساعده على إحكام سيطرته على البلاد من ناحية، وأدى إلى ضبط الأوضاع العامة بعد حالة الفوضى التى سيطرت بالتوازى مع المجاعة التى تعرضت لها البلاد من ناحية أخرى.
ويقول المؤرخون إن الشدة المستنصرية من أشد المحن التى ضربت مصر منذ أيام يوسف عليه السلام، فقد أكل الناس بعضهم بعضًا، وأكلوا الدواب والكلاب، إلى حد أن الكلب كان يباع بخمسة دنانير. وخرجت مصر من هذه المحنة على يد أمير الجيوش «بدر الجمالى» وزير الخليفة المستنصر، بعد أن نجح فى وضع حد للفوضى والجرائم والفتن، فتخلص من كل رءوس الفساد، وأعاد السيطرة على الحكومة، وأعاد سلطة القانون للبلاد، وصار لقبه أمير الجيوش «بدر الجمالى»، وإليه يُنسب حى الجمالية بالقاهرة.
يقول المؤرخون إن المصريين والخليفة «المستنصر» فرحوا أيما فرح بنجاح أمير الجيوش فى تحقيق مهمته، لكن الخليفة نسى أن «الجمالى» كان يفعل ذلك طمعًا فى السلطة، وليس من منطلق الولاء أو الإخلاص له، وبالتالى فقد كان موقف «المستنصر» عاصف السذاجة، لكن للإنصاف نقول إنه لم يكن بيده حيلة، ولم يكن أمامه سوى أن ينظر إلى وزيره بمثالية، ويتوقع منه أن يعيد إليه سلطته وسلطانه بعد استتباب الأوضاع، وهيهات. فقد أخذ «الجمالى» السلطة بحقها، وبالتالى كان أولى بالسيطرة ممن ألقى بالبلاد فى أحضان المحنة.
ظل «الجمالى» يبسط يد السيطرة على البلاد، وقلَّص من نفوذ العسكر الترك، وأعاد إلى وزارات الدولة هيبتها، بعد أن كادت تتعرض للتفكك، بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية التى ضربت البلاد. وقد عاش أمير الجيوش ثمانين عامًا، وشيئًا فشيئًا أخذ فى الانسحاب والاختفاء من المشهد بسبب المرض وكبر العمر، خصوصًا بعد إصابته بمرض الفالج «الشلل» ليتولى الأمر من بعده ولده «الأفضل»، وكان الأخير «عسكريًا» مثل أبيه، لكنه كان أشد شراسة منه فى تحجيم سلطة الخليفة «المستنصر»، وأصر على أن يعهد المستنصر بالأمر من بعده إلى ولده الأصغر «المستعلى» ليحرم الابن الأكبر «نزار» من حقه الشرعى فى تولى سلطة أبيه، وهو الأمر الذى تحفظ الكثير من الأهالى- وخصوصًا من الإسكندرية- على الخليفة الجديد، وكان يعيش هناك فى ذلك الوقت «الحسن الصباح» مؤسس جماعة «الحشاشين» الشيعية.