رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«البنات متشربش قهوة»

مي مختار
مي مختار

فى الذاكرة حكايات وصور أبيض وأسود وجرس غرفة الضيوف ومسلسل «الحرافيش» عند الخامسة عصرًا، وبائع العرقسوس وصاجاته الرنانة، والتابلوه الغنائى الراقص على موجات الإذاعة «الدندورمة»، وصوت جارتنا أعلى الشرفة تغازل بائع التين الشوكى، وصراخ الأمهات داخل البيوت لإيقاظ أطفالهن للذهاب للمدرسة رغم برودة الطقس، صوت الشيخ النقشبندى يأسر قلبى «مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى»، رائحة النعناع المميزة فى شرفتها، براد الشاى الصاج الأزرق فوق الموقد وصوت غليان الماء داخله.. دومًا كنت ألهث خلف اكتشاف الأشياء من حولى ولكن فى صمت دون لفت انتباه أحد، الكاميرا المحمولة فى عقلى تسجل وتلتقط التفاصيل، فنجان قهوتها كان يجذبنى وأنا طفلة أثناء استماعها لمسلسلها المفضل، الصينية الفضية التى لا أزال أحتفظ بها حتى الآن بنقوشها المميزة والسبرتاية النحاسية والفنجان، كانت تجذبنى رائحة البُن، وسألتها مرة: «ليه بتصبى الكنكة مرتين فى الفنجان؟»، ابتسمت وقالت: «علشان وش القهوة»، استأذنتها فى رشفة، فنهرتنى وأفزعتنى: «البنات متشربش قهوة».. فى حجرة الضيوف المميزة المطلة على الشارع يوجد بها جرس داخلى متصل بالمطبخ، ويظل باب الغرفة مغلقًا تمامًا، ولا وجود للأطفال أثناء الزيارة.. ذات يوم استقبلت جدتى ضيوفها وحملت لهم فناجيل القهوة فوق صينيتها المميزة، زاغت نظراتى نحو الفناجيل فلا زلت مصرة أن أتذوق البن مهما كلفنى الأمر من عقاب، فقط كنت أريد أن أفهم ما السر خلف ابتسامتها وهى ترتشف القهوة أثناء استماعها لأم كلثوم وتتمايل برأسها مغمضة العينين، هل لمشروب القهوة سحر خاص يجعلها منتشية إلى هذا الحد؟ 

غادر الضيوف الحجرة نحو باب المنزل، راقبت جدتى من بعيد واقفة أعلى درجات السلم، فقفزت قدماى سريعًا نحو غرفة الضيوف، ولمعت عيناى فى ضوء صينيتها الفضية البراقة، والتقطتُ سريعًا فنجانًا، ولكن لم أهنأ بما تمنيت، ففى مشهد قاسٍ مؤلم ناولتنى ضربة قوية على يدى الصغيرة، فقفز فنجان القهوة عاليًا مرتطمًا بالحائط وتناثرت بقاياه فوق السجادة الصوفية، وصرخت هى فى وجهى وقالت: «متهيألى قولنا قبل كده البنات متشربش قهوة»، فزعت وتسمرت فى مكانى وبكيت.

لم تلحظ جدتى أنها بعقابى المؤلم والمفزع جعلتنى أكتشف بعينى الطفلة المبدع بداخلى، فبقايا البن العالق على الحائط رسمت لوحة فنية بديعة ذات رائحة مميزة ما زلت أتذكر تفاصيلها حتى الآن، مشهدًا أعاد الابتسامة إلى شفتىّ بعد الدموع، اقتربت من لوحة البن وتحسست تفاصيلها بأناملى، بقعة هنا وبقعتان هناك، اللوحة لفتاة بضفيرة طويلة تقف على أطراف أصابعها ترتدى حذاء الباليه وترفع ذراعيها لأعلى فى وضع الاستعداد للرقص، المسرح مظلم إلا من بقعة ضوء فوق الراقصة الصغيرة، وبدأت فى الرقص تدور وتدور وتدور وتقفز عاليًا، ثم تعود وتدور وتدور وتقفز من جديد فى سعادة، حتى أنهت الطفلة المشهد وانحنت فى رشاقة تؤدى تحية الجمهور وهى تبكى فرحًا.

انتبهت الطفلة الصغيرة لصوت جدتها بالغرفة تقول: «إنتى لسه واقفة عندك بتعملى إيه؟»، قفزت الصغيرة إلى حُضن جدتها فى سعادة وقالت: «شكرًا إنك ضربتينى على إيدى».