الأحلام
ها هو قلبى الشاب يدق بعنف طامحًا لمعرفة كل شىء. من أتى بى إلى هنا، ومَن هؤلاء، فى يدى حقيبة السفر، أعددتها منذ عقود، عقود خمسة وأنا أحملها، أطور من شكلها لتتناسب ومهمتى المستحيلة، أقف على أرض صلبة ولكننى خائف. نعم خائف ولكننى بكل قوة وعزم وبصيرة أرقب الشوارع فى مدينتى. الريح رماد والعيد غبار ورمضان ينفلت كسحابة غائمة فى قيظ ظهيرة فى صيف أغسطس، أشعل سيجارتى وحدى وأتأمل تاريخ العائلة، حياة الكاتب. أفكر فى المخرج!
أفكر أن أكتب إليه رغم علمى بعدم وجوده فى حياتنا، أتذكر آخر حديث منه لمذيعة الصفاء وهو جالس فى عليين على بحر عدن محاطًا ببحيرات من ماء عذب رقراق. تتعاظم ملامحه وهو بالرداء الأبيض والحذاء الأبيض ولون قميصه الأرجوانى المخاتل، بعينيه الضيقتين، ووجهه المنحوت الأسمر بفكيه البارزين وشعره المهوش، يتذكر آخر أيام الزمان، عمله وعلاقته بالعالم عبر الكاميرا، وحده كان القادر على تصويرى فى أحلك وأقسى مواقفى النفسية المريرة التى وصلت الآن لذروتها، فى وقت لم يعد هناك جدوى للانتظار ولا الصبر ولا التروى، فكم انتظرت كثيرًا، وحدى على قارعة الطريق، وحدى فى كل مرة، بقلم وورق أبيض مصفوف وذاكرة حية لا تموت، بمفردى وحقيبة سفر، وكاميرا فوتوغرافيا كوداك فى طريق بلا علامات، وقد أطللت للشوارع والبيوت وسكن هناك، لم يعد لى لم يكن لى، لن يكون لى.
خمسة عقود وأنا أتنقل من بلد لآخر، شبه نائم، شبه يقظ، شبه مخدر، شبه حى، شبه ميت، يقظ بالحواس والبصيرة أفكر فيما آلت إليه الأحوال، أو قل المشيئة فى سيرة العائلة التى أوصانى سيدى بالكتابة عنهم فردًا فردًا، وكتبت قليلًا فلامنى على قتلى البطل، خاصة أنه لم يزل عائشًا فى الحقيقة. يتدبر أمر عمله وأسرته الصغيرة، كم كان عارفًا بالكثير عن تلك السيرة، وأن أبى هو من يملك كل مفاتيح الحقيقة، وبيده أن يعبر بنا جميعًا لشاطئ الأمان وليس الحلم، أبى الذى سقط منذ ساعات منكفئًا على ظهره فى طريق طرقه عتبات باب الله فى الأرض، مسجد الشفاعة الذى تعاظمت درجات سلمه فزاغ عن بصر المتيم بلغة الآى آى، فصرخ من الغشم وطفح وهن عقوده التسعة فى لحظات وتوقف العربة الغريبة ورؤية الغريب الساكن إعلانًا بعد الدور السابع لملامحه وهو يبكى بلا تمثيل، ساقطًا بين السيارتين فى شبه عتمة وقبل ثوان من دوى الأذان، كان يبوح بكل شىء فعله فى مسيرته معنا وفى دروب الحياة.
حى على الفلاح..؟ أى فلاح يا أبى، وهل استيقظت وأنت الثائر البائس الفقير العظيم القاسى الغليظ الطيب الضاحك الباكى فى ختام كل سيرة أو حكاية تجترها من أزمنتك السحيقة فى الحنايا والبحور والبراح والضيق فى مخازن الشوك والأسى قرب محطات السكك الحديدية فى مدينة الغرق والحرق.
أسأل نفسى وأنا لم أزل حائرًا بحملى، حقيبة سفر. زارنى سيدى فى المنام ليلة أمس وأفاض فى الحديث همسًا قبل الفجر، وهو الذى لم يتعود على البوح، قال لى: اكتب لى من جديد، إننى أعلم ما تفعله وما تقوم به، وإياك أن تقتل بطلك فى جديدك من السرد أو الرسائل، حتى ولو أصابه العمى، كن بالبصيرة رائيًا، فرؤياك نافذة أعلم ذلك، اكتب، قلت عينى كليلة سيدى وحطامى كثرت من خلف ظهرى، ورأيت شخصًا ما فى شارعنا الطويل فى المدينة البحرية يتعرف على نفسه من خلال ملامحى، كان ينظرنى فى البدء بريبة، فأعقبها بدهشة وضحكة ساخرة، اختتمت ببكاء حار، وربت على كتفى، وهذا من خشيته، فأنا كاره الضعف.
ولكننى ياسيدى لا أخفيك سرًا أنه، وفور أن لامست أصابع كفه اليمنى كتفى، فوجئت بأن الحقيبة تنزلق لأدنى وجسدى يرتعد، قلبى مطمئن وأنا المغادر بعد قليل لبلاد كان لى فيها حلم ولعب وهوى وبحر وموت وإلف ووداع وآلاف الأصوات لسرائن مغادرة مجرى الميناء والجو ساكن هنا يا سيدى بعد الغروب بلحظات.
عن أى الأشياء سأكتب له وأنا قد عثرت أخيرًا على حطام لظل. يشبهنى فى كل شىء حتى ملامحه وهذا البياض الرائق الودود فى وجهه، لكنه أطول منى نسبيًا ببوصات ثلاث، كان يقود دراجة نارية ويدور فى فراغات شوارع الإسراء من حولى حتى استكان فؤاده عندما علم بقرب مغادرتى البلاد الرمادية، فجاء وتوقف فى محاذاة مسجد الصخرة، وأطفأ ماكينة دراجته، وبات يرقبنى، فاستدرت بعد دقائق متجهًا لرجل الساعات الواقف قبل مدخل عمارات النور التى انطفأت مصابيح مداخلها مع أول مغادرة لشهر الصيام، فعوت الكلاب بالعشرات ترمح وتلهو فى الظلمة بكل أمان وقتما أحضر لها الطعام اللحمى الملفوف بالسيلوفان ورمى به برحمة رجل الساعات الطيب والذى لمحته للمرة الأولى يصرخ فى الدعاء وقت ختم الصلاة، بل كاد أن يتشعلق فى أحبال عمره التى أتلفتها التجربة ليصعد إلى الرب جهرًا.
بعد عودته من المسجد، سيدى الغائب فى متاهاته، ماذا أكتب.. وكم من الرسائل وصلتك منذ اختفائك من مدينة القاهرة، هل تعلم أننى سألتهم عنك منذ شهرين فى شارع السراى فأكدوا موتك، ومنهم من قال، بل جزم بمغادرتك البلاد مع نهاية الألفية الثانية؟
سيدى حسام الدين صاصا قل لى ماذا تفضل فى سيرة الكاتب كى تتوافق وهواك وذائقتك بل حلمك ببطل فيلمك الجديد، المنتمى، اللا منتمٍ.
صدر أمر مجهول، حتمى، بالقبض الفورى علىّ، فعلمت. كيف؟ لا أعرف. دبروا لى محاكمة سريعة وفورية وحكموا علىّ بالإعدام، شنقًا، بت أسيرًا فى الليل، فى أماكن اخترتها بعناية ودقة، كنت أمشى بحذر، فى الليل غالبًا، وعندما زادت المطالب ومعها البحث عنى فى كل الأماكن التى أتردد عليها، كان الليل قد زاد فى الظلام.
حملت طبنجة تخصنى، لم أقصد إخفاءها، ولكننى فجأة أحسست بها فى حضن ضلعى اليسرى، فزدت فرحًا بمباغتة تجلت بهذا الأمر الغريب، ضحكت وأنا السائر بها فى بيت غريب، بناية صماء لا فيها نفس ولا بشر، لا ألوان تذكر لحيطان عالية، صماء، جهمة. بها غرف ثلاث، ومسقوفة بركام حيطان تشبه الجدران المرفوعة عليها الغرف ذوات الحجم الواحد، خلف الغرف الثلاث والفاصل ما بين كل واحدة وأخرى منها، وجدت سورًا دائريًا يمكننى من الطل بلا خوف.
تلصصت، لم أتلصص، ولكنى وجدتنى أرى المتورطين فى القتل، المنفذ والمدبر والممول، وقف كل منهم فى متاهة الإثم، ودلالات مؤكدة عن شروعه فى قتل الرجل المهم الذى لا أعرفه، والذى دار فى ذاكرتى بيانات عنه، ليس لها أدنى علاقة بحالتى الرجراجة فى تلك الساعات ما بين الليل والنهار، والعقل واليقين، ولكنها غلبة بصيرة ما تلزمنى وتؤكد علىّ بفساد الرجل المقتول.
رجل يمثل خطورة على البلاد والعباد، كل الجهات الأمنية فشلت فى العثور علىّ حيًا، ولم يعد إلا تلك البناية التى أدور فيها مستطلعًا القتلة الحقيقيين، صرت أضحك فى الليل، وأنا أراهم فى ذعر فيزداد يقينى بخلاص ما لا أعى ولا أعرف ولا عندى سبب واحد لكيفيته، كنت قد خلعت عن جسدى الذى تضخم على غير العادة، كل ملابسى، أو ما اعتدت على ارتدائه.
أتحسس عضلاتى، وقد تعمدت التلصص وأنا بشورت يصل ما بين الفخذ والركبة، وبقدمى حذاء كلاركس هافان، الشورت بيج، كابى، ونصفى الأعلى عارٍ تمامًا، والطبنجة معلقة بحزام أسود ملفوف على رقبتى هابط لصدرى مرتكن بجانب الضلع. وكبسولات ثلاث بلون أزرق قاتم، والسلاح محشو بالطلقات، وأنا واثق من براءتى، ولكننى مستمر فى الضحك الهيستيرى الذى لازمنى منذ صدور القرار الذى على أثره تركت بيتى وبلادى ومكانًا ما أعرفه حسيًا كنت أقيم به وحدى.
فات الليل وأنا ما زلت أرقب الثلاثة أشخاص، وتلك النثار من حبات عرق ساخن التى زادت على كتفى وصدرى، تزيدنى جسارة، ومحاولات أولى للتصويب على الثلاثة، الذين وقف كل منهم يفكر فى مصيره لو لم يتم العثور علىّ فى أقرب وقت، قبل صباح ما، غلفه رماد قريب لبياض الثلج.
كانت البناية قد سطع فيها ضوء مبهر قادم من أعلى، من السماء، وقد انفتحت سقوف البناية، وأنا أضحك وأرى من يردد من أعلى، كيف سنخرج من هذه المؤامرة الخائبة، وقتها كان كل من القاتل والمدبر والممول قد بدأوا فى نوبة ذعر، تنتفض أجسادهم فى رعشات تتوالى، مع بقع ضوئية حادة وأزيز طائرات هليكوبتر، وأنا المحجوب خلف السور الدائرى أعد سلاحى للإطلاق.
كيف لهذه المرأة المتواضعة كل هذا العسل الأبيض الشفاف، السائل، الخارج من فمها للعالم، بحسرة، وأنت الشاهد على مخارج الفقر، دفقات من الحلو لأصحاب الغواية، هؤلاء المترجلون فى نطاعة بحيى «دار السلام»، يا دارى يا دار، ليس بسلام من تلك الإناث التى هبطت على مدينة الظلام فى سنواتها الأخيرة، كانت موزة، وأنا، والحرمان، من تلك الرائحة التى ذكرتنى بحلمى الرومانتيك، الشهى، حلمى فى الهوى، طائرًا بلا عماد، ولا أرض مستوية، بلا رحمة، كانت تجلدنى بعجائن الجسد المفرط الغواية، الملائكى، الشهوانى، المقدس، المدنس، بتاريخ من هفوات الإجرام الضارب فى تاريح حارتنا، القادرة على التجدد بفتيتها، على جسر متكسر كانت تسير بلا رحمة، بخفة، بغنج، بليونة وتلك الخارطة الحسية ذات القوام الرجراج.
يا أرض الشياطين، يا من رقصن فوقك جميلات الملاجئ فى سكة الفرح المسروق فى ليال باتت هى السلوى بلا نهاية للعتمة فى روحى، موزة، هكذا ينادونها، فى خفة ودهشة القندس، ولحم الغزال ولكنه لدن، بكر عوان، بين هذا وذاك، تكمن الغواية، من أتى بى إلى هذا الدرب، فى السابعة والسلم فارغ إلا من قطط تشعر بالسلام فى خطوى، وأنا أشكو الصدع فى مخى، مهرولًا، أهرب من خيول جامحة تأكل فى رأسى المستسلم لسواد الأيام التى تترى ما بين عتبات خريف متلاحق، وشتاء لم يرد بعنوان متفق عليه، يا صافرة القطار الذى يغرب فى ليل كل مساء بعد انتصاف يوم الغرباء فى بلاد الخراب والصراصير التى تأبى الزحف وتنصاع للفرار على جسر العبور لدار السلام!
يا أرض الشياطين، والأجساد المكومة بعدة الهجرة إلى منازل قديمة وهدم وبناء فى الخلاء. والملائكة التى تغوى رجل العقد السادس الآمل فى العودة للصبا على صدرك، ونهديك، وسرة النبوءة، وشراشف تحوط سيل الدم واللبن والعسل المصفى، موزة، لا تقضم ولا تؤكل، ولم تخلق من عدم، هى ابنة الرخوة والندى وشمس التلاقح فى الصيف الطرى فى بلاد تنتعش برائحة الشواء وبهارات إفريقيا وتوابل بلاد الهند، وعجائب مخلوقات الله فى أرض التهلكة، والعصف، والدم المسفوح، والأذان بلا طائل، ودخان الحشيش، وصرخة الوليد فى قعر الحمام منعدم الضوء، وصراخ أم الخطيئة قبل الفجر وبعد الليل، وحدها كانت، تملك رنين الفضة وهى تنادى الجيران، والأقارب، الصوت الهامس فى فراشى، الصاعق للجهامة المختبأة فى انتظار الانقضاض على عصور من البراءة، مونى؟!، هكذا تناديها الماما، وهى تبتسم لى بعدما ناديت من خلف الأبواب، أستغيث بفرط الرمان، وأنا الخارج أرتعد من تحت غطاء النسيان، بلا متاع، ولا سلوى، إلا نطقها باسمى فى خجل وهى ترمى بالإيشارب الساتان، معصوبة الرقبة، لؤلؤ منثور على الجبين، ودهشة الكريز الطفولى اللامع بسحر القول الصامت فى خفة الروح، لمن تصلى إذن أيها الساكن فى دار السلام بلا متاع إلا رائحة النهد فى جلباب مونى وقميص الأيام التى لا تضحك إلا لمجانين العشق والاندفاع والاختباء وراء الأساطير الحسية فى بلاد الله.