رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زُبيدة

محمد أبوزيد
محمد أبوزيد

- صباح الخير يا خلوو

- صباح الزفت على دماغك 

- طب اركب يلا وقولى مالك! 

الآن فاتت عشر سنوات بالتمام والكمال وهو يشكو لى ما تقترفه زبيدة فى حقه من مطالب وآثام ليس له شفيع عندها فترحمه، ولا يجرؤ أن يبطحها بطحة تنهى الأمر، فيدخل السجن ويضمن المبيت والزاد، وكلما ألتفتُّ للطريق، ينهرنى بشدة ويصرخ- هو أنا بحكى لمين رد عليا أنا غلطان؟ أخلص منكم فى ساعة واحدة قادر يا كريم- فأبتسم له، يزداد غيظًا ويزيد صخبه؛ ما دفعنى للصبر عليه أول الأمر «أجّرَته» التى أختتم بها يومى، والوحيد الذى لا يُفاصلنى، كل يوم فصل من قصة زبيدة، تجعلنى لوددت أن أقتلها وأرتاح، تعاطفًا معه ومللًا منها، الفصل الأول منها حينما أوقفنى بميدان عبدالمنعم رياض «عابدين يسطا» وقفت وركب ودار الحديث بيننا..

- بتاعك التاكسى ده؟ 

- ‏آه يا حج. 

- ‏طب جدع والله بتكسب كويس، مقصدش أعرف حاجة والله أنا بدردش معاك، ربنا يباركلك فيه.

- ‏ولا يهمك يابا أهى ماشية وبـتُرزق. 

- حلو شغلنى معاك أنا لسه طالع معاش طازة.

تبعها بضحكة- ماتخفش أنا ما صدقت أرتاح تلاتين سنة شقى- وبدأ يُهمم ويتأوه على ما مضى ويطلب الستر فيما هو آت، وأوله كارثة الزوجة الثرثارة، وحكى قصة زواجهما وما فعلته من صراخ وعويل ليلة الزفاف حتى خرجت الحارة عن بكرة أبيها من الشرفات، ولكن فيما بعد اعتاد الجميع على نغمات الكروان الهادئة كل صباح، عجيب أمره، ساخر لأبعد الحدود كلما تعمَّـقت مُصيـبته كان أكثر سخرية، ورغم ما عدَّ من كوارثها أفاض من محاسنها وحبه لها الذى وصفه بالدواء، مُـرٌ لكنه يُشفى من علّة الأيام وقسوتها، أنيسته الوحيدة يأنَسُ بأحضانها فى المساء، وفى الصباح تُـأنسهُ بمُـحاسبته على ما اقترفه من ليلة الزفاف حتى خمسة وعشرين عامًا لحقت بها.

وصلنا، أشار لى بالصعود معه للضيافة، ثم رجع فى كلامه- ولا أقولك عدى عليّا بكرة سابعة الصبح هتلاقينى على القهوة دى- صباح اليوم التالى ذهبت ووقفت أمام المقهى، طلبت من «القهوجى» أن يُشير إليه بأنى هنا، فناداه بصوت عالٍ- يا خلو التاكسى وصل- فأتى مُسرعًا ولطمه على خده واضعًا يده على فمه- بس يا مهّـروش هتجيبلنا مُصيبة- ثم تأبطه بعيدًا وعاد لى مُشيرًا بالذهاب.. 

- كورنيش التحرير.

- ‏حاضر. 

- أنت اسمك إيه يا وله؟ 

- ‏حمادة!

- وراك حاجة؟

- ‏لا مروح! 

- تعال اصطاد معايا. 

- ‏مليش فيه، وتعبان والله يابا. 

- ‏تعال افطر معايا طيب. 

وبعد إلحاح، ذهبت توفيرًا وجوعًا، أخرج سنارته وألقى خيطها للصيد، لم يشغلنى الجوع بقدر ما فعله، لماذا يلقى خيط «سنارته دون طُعم»..؟ نظر لى وضحك، سألته عن أولاده، لم ينجب، شرد عنى متأملًا المياه الجارية تحت قدمه كالمرآه ناظرًا لىّ فيها، أحسّ ما على وجهى من متاعب، وضع يده على كتفى «وطبطب برفق»، ظللت معه شهورًا، وذات صبيحة فى موعدى أنتظره بالمقهى، لم أره، أخبرنى الجالسون بأنه لم يصحو بعد، صعدت وأنا كلى شوق ورجفة أن ألتقى الست زبيدة، الباب مفتوح، إذ به مُلقى بالأرض نظرت فى جميع الغرف، لم أجد أحدًا، دخلت الشرفة المُطلة للمقهى وصرخت فى أحدهم أن ينجدنى، صعدوا وأفاقوه معى وكلٌ رجعَ من حيثُ أتى، سألته عن زبيدة- راحت السوق إلهى ما ترجع- ظللتُ معه حتى الظهيرة خوفًا عليه، لم تأتِ، اتصلت بى زوجتى فأخبرتها بأنى ذاهب إليها.. أمسك بيدى كطفل يخشى أن يُـترك وحده..

- أنت كمان عاوز تمشى زى زبيدة؟ 

- أكيد قربت تيجى!

بعد عودتى أحضرت له ما يلزم من دواء وفى السابعة صباحًا من اليوم التالى، ناديته بصوت عالٍ متعمدًا، صَخب.. وضحك الجالسون، صار يجرى وراء أحدهم، لحقتُ به، وأخذته من يده، أدخلته التاكسى.. 

- تعالى أحسن لو شافتك هتسوّد عيشتك 

- زبيدة دى ست الكل، هى بس عصبية حبتين والله، هما بيكرهوها عشان ستهم، هى اللى بتدافع عنى، عشان كده مش بيحبوها.. إيه ده أنت جبت سنارة، جدع يا وله...

حـبَستُ دموعى ونزيف ألمى لما به، يختلق كل هذا فقط ليأنس بخيال من صُنعه، فضَّل أن يعيش بحُلم، خيرًا من واقع يُميته، رميتُ خيطُ سنارتى بلا طُعم، فـضحك..

- هو أنت كمان عندك زبيدة وخايف تجيب «طُعم» لتقولك اللى يعوزه البيت يحرم على الصيد؟ 

وهكذا فاتت العشر سنوات، كل يوم، فى نفس الموعد، السابعة صباحًا..

- يلا ياخلووو عمّال تقولى صباح الزفت على دماغك وزعلان إنى اتأخرت عليك، وأديك نمت تانى يا سيدى.. خلو ، خلو، عم خليل..!