«مصر على الشيزلونج».. د. أحمد عكاشة يقرأ كف المصريين فى نصف قرن
الإخوان لديهم عقدة اضطهاد ويبحثون عن الإحساس بالمظلومية
يجب أن نتوقف عن «وصم» المريض النفسى وأن نحترم المعاناة النفسية
الرجال لدينا مظاليم.. والمرأة ليست أكثر حنانًا من الرجل
يجمع د. أحمد عكاشة، أشهر أطباء النفس فى مصر، بين أكثر من صفة .فهو أستاذ كبير للطب النفسى درس فى أكبر جامعات إنجلترا وعاد إلى مصر ليمارس عمله منذ النصف الأول من الستينيات.. وهو مثقف كبير تربى فى حضرة شقيقه الأكبر د. ثروت عكاشة، أبو الثقافة المصرية وأحد قيادات الضباط الأحرار.. وهو نجم إعلامى له طلة جذابة ويجيد مخاطبة الجماهير.. وبالإضافة إلى ذلك فهو مخزن الأسرار النفسية لمئات من مشاهير ونجوم مصر منذ الستينيات وحتى الآن.. باختصار يمكن وصف د. عكاشة بأنه «حكيم» المصريين وواحد من الذين فهموا الشخصية المصرية و«عجنوها وخبزوها» وهو ما يضفى أهمية على كتابه الأخير «قراءة للعقل المصرى» الذى ضم فصولًا متعددة حلل من خلالها الشخصية المصرية من زوايا مختلفة.
قدم «عكاشة» قراءة لما طرأ على مجتمعنا من تحولات وتبدلات، لكن هذه المرة ليس من مدخل اقتصادى بل نفسى، وجمع مقالاته ولقاءاته الصحفية فى هذا الإطار، والتى نشرت له على مدار ما يقرب من ٣٠ عامًا «١٩٩٢- ٢٠٢١» على صفحات الصحف المصرية فى زمنى «مبارك» و«مرسى»، ورتبها فى كتاب جديد حمل عنوان «قراءة للعقل المصرى».
ويكشف هذا العنوان، عند النظر إليه لأول وهلة، ابتعاد مؤلفه تمامًا عن فكرة الوصاية التى تحتمها مكانته كمؤسس علم الطب النفسى فى مصر، بقدر ما تشعر بأنك أمام كتاب يقدم لنا روشتة علاج وخارطة طريق، بل «مانيفستو» خطة عمل ودستور ممارسة، علينا بتحليلها واستيعابها وفهمها وتشربها وترسيبها إلى مسام العقل والروح، بحسب ما أشار الدكتور خالد منتصر فى تقديمه الكتاب، حتى يستطيع أن يعبر العقل المصرى فى جمهوريتنا الجديدة بعيدًا عن دفء قطيع الأفكار المعلبة والمحنطة إلى استشراف المستقبل.
فى هذا الكتاب الصادر حديثًا عن دار «الكرمة» للنشر فى قطع متوسط لا يتجاوز مائتين وخمسين صفحة، ستتعرف على أحد أشهر المتخصصين فى الطب النفسى بمصر عن قرب، لدرجة أنك ستندهش عندما تعرف أن له أمنية دفينة كشف عنها على استحياء فى سطر واحد بأحد لقاءاته الصحفية، ألا وهى أنه تمنى أن يكون خبيرًا فى الطهى، لكنه وبسبب عدم إجادته الطهى- لحُسن الحظ وليس للأسف الشديد كما ذكر فى الكتاب- كسبنا عالمًا جليلًا قدم لنا خلال مسيرته الممتدة لأكثر من نصف قرن فى عالم الطب النفسى قراءةً بل تشريحًا للعقل المصرى، بمشرط ناعم قوامه الخبرة والموسوعية والنشأة فى أسرة ثقافية عريقة.
فى السطور التالية، كل ما عليكم أن تواجهوا بشجاعة كل ما يطرحه هذا الكتاب من تحليلات لعلها صادمة، لكنها حقيقية لما نحن فيه، وألا تغلقوا أعينكم أمام مرآة أحد أشهر الأطباء النفسيين فى مصر والوطن العربى، بل وعلى المستوى الدولى.
عبر ١٦ مقالًا اختارها بعناية، استطاع الدكتور أحمد عكاشة أن يغطى فى الجزء الأول من هذا الكتاب مساحة كبيرة مما يدور داخل مجتمعنا المصرى من ظواهر، لعل بعضها متجذر يحتاج إلى علاج مثل التطرف، والتكوين النفسى لجماعة «الإخوان»، والآخر لا يرقى للظواهر ولا يتجاوز كونه أحداثًا وقضايا، لكونه غير متجذر فى مجتمعنا، بل بالأحرى عالقًا فى عقول عدد كبير من المصريين، وتظهر أعراضه بين وقت وآخر.
من هذا النوع الثانى- على سبيل المثال لا الحصر- أمراض: الثانوية العامة، والنسيان فى مرحلة الشباب، وكيف ينظر ملايين المصريين إلى المرض النفسى والمعاناة النفسية كوصمتى عار يخشون الجهر بهما، بل والذهاب إلى طبيب نفسى للتشخيص باعتباره مرضًا مثل أى مرض له علاج، وكذلك مسألة بناء الإنسان المصرى الذى هُدم بفعل فاعل خلال سنوات مضت، شهدت العديد من التحولات الجذرية التى جرت فى نهر من التغييب العمدى، فسلبت من العقل المصرى قوته ومنحته الضعف لفترات طويلة، إضافة إلى قضايا اجتماعية، مثل طبيعة العلاقة الخفية بين الثقافة والفن والطب النفسى.
وفى الجزء الأول من الكتاب، لم يغفل «عكاشة» فى مقالاته المنتقاة أن يعرج إلى الدور الثقافى والتنويرى الكبير الذى قدمه شقيقه الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة الأسبق، قبل أن يقدم له يد العون. كذلك لم ينس أن يقدم لنا قراءة نفسية مغايرة لواحد من أشهر علمائنا المصريين، ألا وهو الدكتور أحمد زويل، وما كان يتمتع به من ذكاء عاطفى.
وتحت عنوان: «التكوين النفسى للإخوان»، أشار الدكتور أحمد عكاشة إلى معاناة جماعة الإخوان الإرهابية، مما وصفه بـ«متلازمة الماسادا»، وهى حالة نفسية تتميز باعتقاد مركزى راسخ بواسطة أعضاء مجموعة، يشعرون بأن المجتمع ضدهم وله نظرة سلبية تجاههم، وهم يفضلون الانتحار أو الموت على الاستسلام أو الهزيمة أو قبول الواقع.
ولم يتوقف الدكتور «عكاشة» عند مسألة «متلازمة الماسادا» فى تشريح الحالة النفسية لـ«الإخوان» فحسب، وشبه إياهم بمريض الهذيان العقلى المدمر للذات، الذى يكون مغيبًا عن الوعى، ويتميز سلوكه بالعدوان الغاشم.
وبعد أن شَخّصَ وشرح ظاهرة التطرف والإرهاب، قدم أستاذ علم النفس عددًا من المقترحات لمواجهتها، أبرزها أنه ينبغى مواجهة التطرف فى إطار استراتيجية مجتمعية شاملة، تقوم على أساس التنمية والتطوير الشامل المستمر للمجتمع، وأن هذا كله غير ممكن إلا من خلال تعاون أجهزة الدولة، ممثلة فى وزارات: التربية والتعليم، والتعليم العالى، والشباب والرياضة، والثقافة، والأوقاف، ومعها الأزهر والكنيسة، وغيرها الكثير.
كذلك يجب أن يقوم المجتمع على أساس العدالة الاجتماعية ومحاربة حقيقية للفساد، ورغبة حقيقية فى القضاء على مشكلة البطالة، وأن يؤدى الإعلام دوره فى تصحيح صورة الإسلام والمسلمين فى العالم، وأن يتم إنشاء مواقع إلكترونية أو عدة صفحات على «فيسبوك» للتحاور مع ذوى الأفكار المتطرفة، ومواقع إلكترونية أو صفحات على «فيسبوك» تتجاوز مواقع الإرهاب تحت عنوان: «العائدون من محاضن التطرف».
وينبغى أيضًا ترشيد الخطاب الإعلامى المقروء والمرئى والمسموع، المحرض والمستفز والعدوانى، وإتاحة الفرصة لعدد من المتخصصين فى العلوم النفسية والاجتماعية للقاء مباشر مع عدد من المتورطين فى أعمال العنف بناءً على أفكار متطرفة، وتنفيذ مشروع لاستقبال العائدين من التطرف وتهيئة الفرصة للحوار معهم، وكذلك تنظيم مناظرات تليفزيوينة ومحاورات مع المتطرفين فى خارج أو داخل السجون بمشاركة كبار العلماء المعتدلين والمحايدين، والإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعى.
وعلى مدى ما يقرب من الثلاثين سنة، أجرى الدكتور أحمد عكاشة ١٢ لقاءً صحفيًا، فى الفترة من ١٩٩٢ حتى ٢٠٢١، تناول خلالها الكثير من القضايا المجتمعية التى تشغل مجتمعنا، مثل علاقة المرأة بالرجل، وقراءة نفسية للشخصية المصرية، ولماذا يعد مجتمعنا أكثر اهتمامًا بإرضاء نصفه الأسفل دون الأعلى؟ والسبب وراء الانفلات الأخلاقى، وكورونا، والإبداع والمرض النفسى، ومحنة المرض النفسى مما عانوا منه، والأخلاق كطريق للنهضة قبل القوة العسكرية أو السياسية.
واستهل د. «عكاشة» الجزء الثانى من هذا الكتاب بنشر لقاء أجراه عام ١٩٩٢ مع مجلة «آخر ساعة»، وكان عن المرأة، التى وصفها بأنها ليست أكثر خيالًا، وأن خيال الرجل أكبر منها. وشرح: «رغم أن المرأة أقوى فى مواجهة الحياة وأزماتها. إلا أنها تخشى من كتابة سيرتها الذاتية، خاصة فى المجتمعات المغلقة، وأنه رغم ذلك فإن خيال الرجل أكبر وأوسع مدى فى الإبداع من المرأة، ليس هذا فحسب بل إن المرأة ليس صحيحًا أنها تحب أكثر من الرجل، أو أنها أكثر حنانًا من الرجل».
ومن اللقاءات الصريحة الأخرى التى حملت إجابات صادمة عن بعض الظواهر فى مجتمعنا، كان لقاء صحفى نُشر له عام ٢٠١٠ على صفحات جريدة «الفجر» تحت عنوان: «قراءة نفسية للشخصية المصرية»، قال فيه: «رغم أن نسبة ١٠٪ من المصرييين جربوا تعاطى الحشيش أو يتعاطونه على فترات متقطعة بحسب إحصائية لوزارة الصحة، تعد هذه النسبة معقولة وتتماشى مع النسب العالمية».
وعن انتشار العنف، قال «عكاشة» إنه عندما يتأثر الجهاز العصبى ويفقد القدرة على إدارة الانفعال والغضب، فإنه يُقبل على العنف، كما أن العولمة إلى جانب الفضائيات وأفلام العنف ساعدت على انتشار هذه الظاهرة.
وبيّن أن الطفل عندما يصل إلى سن الخامسة عشرة يكون قد شاهد أكثر من مائة ألف مشهد عنف، بمتوسط ساعة ونصف الساعة مشاهدة فى اليوم، وعندما يرى الدم والقتل يوميًا سيصاب بالبلادة، لافتًا إلى حرب العراق، حين كنا نشاهد مقتل قلة من العراقيين فنهلع ونجزع ونأسى، لكن مع تكرار رؤيتنا ذلك أدمنّا رؤية العنف وأصابتنا البلادة.
وتحت عنوان: «سأنتخب الرئيس صاحب الرؤية المستقبلية»، أجاب الدكتور أحمد عكاشة عن سؤال: «مَن الرئيس الذى ستنتخبه؟»، فى لقاء صحفى أُجرى معه عام ٢٠١٢.
وقال «عكاشة» إنه سينتخب الرئيس صاحب الرؤية المستقبلية لا صاحب شعارات الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، كما أنه لا يفضل أصحاب الرؤى الكلاسيكية أو المحافظين، الذين يرصدون كل الأمور بالورقة والقلم، كما أنه لا يريد رئيس جمهورية عاقلاً! بل إنه سينتخب من يفعل أشياء غير مألوفة مبتكرة مبدعة، لأنه أثناء المحن والثورات لا تصلح القيادة التقليدية، إلى جانب ضرورة الانفتاح على الماضى والحاضر والمستقبل بطريقة علمية.
ودلل على صحة كلامه بالإشارة إلى أن كل دول العالم التى نهضت من حولنا امتازت بقادتها الذين يملكون رؤية مستقبلية، سواء فى كوريا الجنوبية أو سنغافورة أو ماليزيا.
وقبل أن يقدم الدكتور أحمد عكاشة إجابة عن سؤال: «هل أغلب المبدعين مرضى نفسيون؟»، استعرض مجموعة من الأرقام المهمة، من بينها أن ٨٥٪ من الجرائم يرتكبها أشخاص طبيعيون، و١٥٪ فقط ممن لديهم مشاكل نفسية.
وأضاف: «لكل شخصية سمات، هناك شخصيات تبغى الإتقان والانضباط، لا تستطيع أن تصمت أمام شىء معوّج فتقوّمه، تتقن عملها تمامًا ولا تتركه منقوصًا، وهذه الشخصية تسمى (الوسواسية)، حتى إن زوجة شكت من أن زوجها يرتدى ملابسه فى الظلام، لأنه يعرف مكان الكرافت والقميص والشراب، ولا يقبل أن يترك شخصًا يرتّب له أشياءه».
وأضاف: «عكسها الشخصية الهيستيرية، وهى إلى حد ما فوضوية ومشاعرها متقلبة، تثور لأقل سبب وسرعان ما تهدأ، وهى متحفزة للإغراء الجنسى، تشعر بأنها تحبك وهى فى الحقيقة ليست كذلك»، مبينًا أن «كثيرًا من الفنانين والفنانات تنطبق عليهم هذه الشخصية، التى يمكن أن نطلق عليها النرجسية العاشقة لذاتها». وواصل: «هناك الشخصية الانطوائية، وهو شخص لا يحب الاختلاط بأحد، يحب الجلوس للقراءة والكتابة وسماع الموسيقى، بينما أخوه على العكس، يظل فى الشوارع مستمتعًا بوقته، ويمثل بذلك الشخصية الانبساطية».
وأكمل: «هناك شخصية لديها مرونة وديمقراطية، تستطيع التعامل مع الأفكار المختلفة، تقابلها الشخصية جامدة الفكر، التى لا تقبل الفكر والرأى الآخر». وجدير بالذكر أن «عكاشة» قرر أن يتخلص منذ منتصف الستينيات من لافتة «مستشفى الأمراض العقلية»، وأن يكون العنوان الجديد هو «مستشفى الطب النفسى»، مؤسسًا مدرسة جديدة فى العلاج النفسى للمرضى الذين يراهم- بعد تعامل يزيد على ٥٦ عامًا- من ألطف البشر.
وحذر الدكتور أحمد عكاشة، فى كتابه أيضًا، من «السوشيال ميديا»، وقال إن «الثورة المعلوماتية فى وجود وسائل التواصل الاجتماعى غيّرت تمامًا فى أخلاق الشباب والشابات، ليس فى مصر فقط، بل فى العالم كله».
وأضاف: «الفيسبوك ٧٠٪ إلى ٨٠٪ منه كذب وتضييع وقت وقلب للحقائق، وهناك خطورة شديدة نتيحة انشغال كل فرد فى الأسرة بهذه الوسيلة التى تقتل الحميمية بين أفراد الأسرة الواحدة، لأن الأخ لا يجلس مع أخته، والأب والأم منشغلان أيضًا مع الكمبيوتر».
وأعرب عن خوفه من أن المشاعر بعد ١٠ أو ٢٠ سنة ستتجمد وتتبلد، وأننا فى طريقنا إلى أن نكون مثل «الروبوت»، ضاربًا مثالًا بالنسبة لطفولته، التى عاشها ولم تكن هناك وسيلة غير الراديو، فلم يظهر التليفزيون بعد، وهو ما وفر له الثراء الثقافى أن يجلس مع الأكبر منه سنًا، ما مّكنه من أن يسمع السياسة والأدب والشعر، بدلًا من الكلام «الفاضى» الذى نراه على شاشة التليفزيون ويؤثر فى تكوين الشخصية بشكل غير طبيعى.
وكشف عن أكثر فئات المجتمع زيارة للعيادة النفسية، هل نجوم الفن أم الرياضة أم السياسة؟ قائلًا إن «الزوار من نجوم الكرة قلة، لأنه طالما النجم لا يزال فى الضوء، فإنه لا يفكر فى علاج النفس المتعبة، لكن كلما قلت الأضواء احتاج لزيارة الطبيب النفسى، فمع انحسار الأضواء يصاب الشخص بالأمراض النفسية، رغم أن انحسار الضوء يمكن أن يمتعك أصلًا».