«أنصارية» تسأل عن مصائر البشر فى العالم الآخر
خليدة بنت قيس بن ثابت الأشجعية، سيدة أنصارية تشهد على ما تمتعت به نساء المدينة من عقل شغوف بتدبر الحياة، ومنشغل أيضًا بالتفكير فيما وراء الحياة، وقد ارتبطت بابنها واقعة شديدة الخطورة فى حياة النبى، صلى الله عليه وسلم.. تزوجت «خليدة» من البراء بن معرور، وهو من بنى سلمة وأحد النقباء الاثنى عشر الذين اختارهم النبى ليلة العقبة الثانية ليقودوا إخوانهم من الأنصار المنضمين إلى قافلة الإسلام داخل المدينة، وأنجبت منه ولدًا سماه «بشرًا»، وقد بايعت رسول الله على الإسلام، وروت عنه حديثين، لعل أشهرهما «حديث الروح»، الذى يطرح سؤالًا حول مصائر الأرواح بعد الوفاة، ويعكس حالة الشغف بالمعرفة التى امتازت بها هذه المرأة الأنصارية.
سألت «خليدة» النبى، صلى الله عليه وسلم: هل يتعارف الموتى؟ فقال النبى: «تربت يداك- وربما قال ترب جبينك- النفس الطيبة طير خضر فى الجنة فإن كان الطير يتعارفون فى رءوس الشجر فإنهم يتعارفون».
الواضح أن قضية الموت وأحوال العالم الآخر الذى يدخل فيه الإنسان بعد وفاته كانت تشغل عقل «خليدة» وإلا لماذا سألت هذا السؤال، وهى مسألة شغلت من قبلها نبى الله إبراهيم، عليه السلام، يقول الله تعالى: «إذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم ادعهن يأتينك سعيًا واعلم أن الله عزيز حكيم».. اجتهد كل المفسرين فى نفى أى دلالة تحملها الآية على تسرب الشك إلى نفس إبراهيم، عليه السلام، حول قدرة الله على إحياء الموتى، وذكر أغلبهم أن كل ما فى الأمر أن إبراهيم أراد أن يرى قدرة الله بعين رأسه وليس بقلبه.. يذكر القرطبى فى تفسيره: «إن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال عليه السلام: ليس الخبر كالمعاينة».. وذكر «ابن كثير» أن «إبراهيم أراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين»، يعنى أراد أن يرى بعينيه الكيفية التى يحيى بها الله تعالى الموتى رغم إيمانه «قلبيًا» بقدرته تعالى على ذلك، وزاد على ذلك أن «إبراهيم» طلب من ربه هذا الطلب بعد حواره الشهير مع نمرود العراق الذى قال له فيه: «ربى الذى يحيى ويميت»، فأراد بعد الحوار أن يعاين بشكل مباشر هذه المسألة.
والغريب أن اسم «خليدة» ارتبط بواقعة وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، فولدها بشر بن البراء هو الذى أكل من الشاة المسمومة مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقد قدمت عدة روايات فى سياق الحديث عن موضوع الشاة المسمومة التى أكل منها النبى، فقد ذكر «ابن كثير» أن الرسول أهديت إليه شاة فيها سم بعد فتح خيبر، فأمر بجمع كل اليهود الموجودين فجاءوه، وسألهم عن أمر السم الذى دُس له فى الشاة، فأجابوه: نعم، قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك وإن كنت نبيًا لم يضرك.. وهناك رواية أرجح مما سبق قدمها «ابن كثير» أيضًا، وذكر فيها أن امرأة يهودية من خيبر أهدت إليه الشاة المسمومة وأن النبى أكل جزءًا منها «من ذراعها» وشعر بوجود السم بها فكف وأرسل للمرأة وسألها هل دست السم له فى الشاة؟ فأجابت: نعم أردت أن أقتلك، فقال النبى، صلى الله عليه وسلم: ما كان الله ليسلطك علىّ، وترك المرأة وشأنها.
ويذكر «ابن كثير» أن بعض أصحابه قابلوا وجه ربهم بعد الأكل من الشاة المسمومة مباشرة، لكنه لم يذكر كعادته أسماء من ماتوا، الثابت فقط أن بشر بن البراء، نجل «خليدة»، هو الذى توفى فى هذه الواقعة، وقد مات فور الانتهاء من طعامه، وربما كان ذلك- والله أعلم- هو السر فيما أدركه النبى من أن الشاة مسمومة، وليس ما يتردد فى كتب التراث من أن «ذراع الشاة» هى التى حدثت النبى بأنها مسمومة، فهذا الكلام لا يستقيم مع العقل.. ويتناقض مع العقل أيضًا ما حكاه «ابن كثير» من أن النبى تناول من الشاة المسمومة، لكن الله صيّر السم فى جوفه بردًا وسلامًا إلى منتهى أجله، وذهابه إلى أن السم عرق، إذ لا يستقر فى الجوف فلم يضره السم الذى حصل فى باطنه بإذن الله، عز وجل، حتى انقضى أجله صلى الله عليه وسلم.
الغريب أن «ابن كثير» ذكر بعد كل هذا الكلام أن النبى، صلى الله عليه وسلم، ظل يعانى من ألم ذلك السم حتى صعدت روحه الشريفة إلى بارئها، واتفق فى ذلك مع «ابن سعد» الذى ذكر فى «طبقاته» حديثًا مرويًا عن «خليدة»، أم بشر بن البراء ضحية الشاة المسمومة، جاء فيه: «حدثنى معمر ومالك عن الزهرى عن عروة عن عائشة قالت: دخلت أم بشر بن البراء بن معرور على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى مرضه الذى مات فيه وهو محموم، فمسته، فقالت: ما وجدت مثل وعك عليك على أحد، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كما يضاعف لنا الأجر كذلك يضاعف علينا البلاء، ما يقول الناس؟ قالت: قلت: زعم الناس أن برسول الله ذات الجنب (الالتهاب الرئوى)، فقال: ما كان الله ليسلطها علىّ إنما هى همزة من الشيطان، ولكنه من الأكلة التى أكلت أنا وابنك يوم خيبر، ما زال يصيبنى منها عداد حتى كان هذا أوان انقطاع أبهرى»، وتأسيسًا على ذلك يذهب «ابن سعد» إلى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مات شهيدًا.
الثابت أن غزوة خيبر كانت فى السنة السابعة من الهجرة، ووفاة النبى كانت فى السنة الحادية عشرة من الهجرة، ما يعنى وجود فارق زمنى مقداره أربع سنوات بين الواقعتين، وهو ما ينفى وفاته صلى الله عليه وسلم متأثرًا بالسم، وإلا لحدث ذلك مباشرة بعد تناول الشاة، لكن ذلك لا يمنع من وجود توعكات كانت تصيب النبى من حين إلى آخر، حتى حان صعود روحه الشريفة إلى بارئها.