رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا هو ملحد ؟!

جريدة الدستور

منذ حوالي مائة عام كان الالحاد له شكل مختلف عما نعيشه اليوم، فكنا نجد الملحد ( يهوديًا أو مسيحيًا أو مسلمًا ) يتجه للالحاد فكريا ووجدانيًا وتطمئن نفسه إليه بناء على أسباب متعلقة بفلسفة خلق الإنسان أو بالعلوم الكونية والتقدم العلمي الذي يوحي للملحد أن الكون من صنع المادة والصدف الرياضية، وأن كل حشرة ونحلة وطائر يدور فى دورته المعيشية ليس إلا صدفة يعيشها هذا الحيوان وجعلت جسمه يدور فى هذه الدائرة دون تفكير أو تدخل من اي قوة كونية عليا...

بل إننا لن نبالغ إذا قلنا أن حجر الزاوية فى الالحاد القديم هو قضية أصل الإنسان، وكان التساؤل حينها هل هو مخلوق بفعل إلهي أم أنه نتاج التطور من أدنى أشكال الحياة حيث لا فرق بينه وبين الحيوان ؟!!
وحتى العلماء أنفسهم انقسموا إلى ( الداروينية ) حيث اصل الانسان – الكائن الذي وجد نتيجة التطور، وإلى ( غير دراوينيين) وغير مؤمنين حيث أنهم لم يسلموا عقولهم لنظرية داروين وفى ذات الوقت لم يجدوا تفسير لقضية أصل الانسان.

ولن نطيل فى هذه الجدلية أكثر من ذلك فهناك الكثير من المراجع التي تناولتها، ولكن ما يهمنا توضيحه فى هذا المقام أن الالحاد قديما كان مبنيًا على ( فكر ) سواء كنا نتفق أو نختلف معه، وسواء أنه فكر مردود عليه أم لا، الا أنه يسمى ( فكر ) فالانسان الذي يفكر ويستخدم عقله خير من الانسان الجاهل الذي ينجرف وراء فكرة لا يعقلها مثله فى ذلك مثل البهائم المربوطة بحبل من عنقها.

ومن المؤسف أن نقول أن إلحاد اليوم قائم بذاته على لا شيء حيث انه عندما تناقش الملحد يقول لك ( لماذا يوجد شر فى العالم ؟، لماذا أعانى فى حياتي كل هذه المعاناة وغيري من أقراني يعيشون عيشة مريحة ؟، لماذا ولدت فقيرًا لا استطيع أن أتزوج بمن أحبها ؟ ولماذا ولدت بنتًا لا أستطيع أن آخذ قراري بيدي لكي لا يتحكم فيّ أحد ؟؟؟؟؟؟ أسئلة كثيرة غير مرتبطة بأي فكر ولا منطق ولا أي قراءة عاقلة، بل أنني وجدت الأشد بؤسًا من ذلك نموذج ملحد وعندما سألته لماذا ؟ رد وقال أنه غير راض بعيشته ويحلم بعيشة أخرى لا يقدر أن ينفذها ويحققها لنفسه !!!! فهو لم يقرأ أي كتاب سواء فى دينه أو حتى فى الفكر الالحادي الذي قرر أن ينتمي إليه دون وعي !!

ومع الأسف مرة أخرى نجد أن النقاش الالحادي الايماني اليوم غير مبني على علم أو الالمام بقواعد المنطق والفلسفة والعلوم التي تساعد على راحة العقل والقلب والاطمئنان للايمان بإله قادر واحد وخالق، فنجد النقاش يجر بنا تارة فى العادات والتقاليد التي جعلت أحكاما شرعية كثيرة مسخًا مشوهًا غير صالح للتطبيق فمثلا تحرم المرأة من ميراثها، فتندب المرأة حظها وتقول لماذا ولدت أمرأة وليس لي ميراث، وعندئذ تكفر بالله بحجة ان الله ليس عادل !!!!!

هل وصل العقل البشري اليوم لحالة من الجنون، فالعجز الانساني بدلا من أن ينهض وينفض عن ثيابه أي ظلم يتعرض له، راح يندب حظه فى الحياة ويعلق عجزه وضعفه على شماعة الاله الظالم !!

وهناك ملحد آخر تعرض لتحرش جنسي وهو صغير من أحد القساوسة فكره الرب وقرر أنه غير عادل بل أنه خلقنا وترك الكون كله دون أية ادارة فهجر الرب الكون، وهو ألحد وهجر هو الآخر الرب..

إنه درب من دروب الهذيان أيعقل هذا ؟! فأي منهج نستطيع أن نتبعه ليرد هؤلاء عن إلحادهم، فهو لم يقرأ عن دينه ولا فهم أحكامه ( سواء المسيحية او الاسلام ) ولم يقرأ أي فلسفة، وما كثرة الفلسفات التي تبنت الفكر الالحادي وأيضًا ما أكثر الفلسفات التي تبنت الفكر الايماني على اسس عقلية وقلبية وترد على الملحدين، إنه لم يقرأ فكيف يتحدث !!

يذكر انه فى عام 1937 كتب الدكتور إسماعيل ادهم كتيب اسمه ( لماذا أنا ملحد ) والذي انتحر بعد ثلاث سنوات منذ صدوره، وبدأت ( معركة فكرية ) حيث رد على هذا الكتيب الدكتور محمد زكي أبو شادي فى محاضرة ألقاها وكتبت بعد ذلك بعنوان ( لماذا أنا مؤمن )، ثم كتب الدكتور محمد فريد وجدي ( لماذا هو ملحد ) والشاهد من هذه الرواية انه كان هناك ( فكر ) قائم على ثقافة وقراءة للكتب العديدة فى الاديان والرياضيات والعلوم، ولكن ما نأسف عليه اليوم هو المعركة الفكرية ليست متكافئة فقليلًا من الملحدين من يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم، إنه يردد ما يهواه هواه، ولا يؤسس اختلافه على فكر وثقافة.

وعلى جانب آخر، سنجد أن الالحاد ليس بقضية جديدة اليوم نتفاجئ بوجودها بين ظهرانينا، وإنما هو ظاهرة ضرورية النشأة فى كل حضارة حينما تكون فى دور المدنية، وإنما تختلف وفقًا لروح الحضارة التي انبثقت فيها، فالالحاد نتيجة لحالة النفس التي استنفذت كل السبل وإمكانياتها الدينية ولم يعد فى وسعها بعد ان تؤمن، لذلك يختلف الالحاد الغربي عن الالحاد العربي، فالاول قائم على انكار وجود الاله، والثاني قائم على انكار النبوة والانبياء، وكان هذا أيضًا منذ عهد ليس ببعيد، أما اليوم فالإنسان العربي كلما رأي نفسه مظلومًا أو مقهورًا، يكفر بكل المبادئ والقيم بل وبالالوهية ايضا، يكفر بكل شيء دون ادراك، ويؤمن فقط بالانسان، بنفسه التي عانت وطالت معاناتها دون أي شفقة أو لطف من الرب، فهو سخط على الكون كله من تجربته السيئة فى الحياة..

لماذا لا نعيد النظر فى التجارب السيئة، وننظر لها نظرة أخرى مفيدة تُطور من ذاتنا، وتجعلنا نتقرب إلى الله بدلًا من أن نبعد ونكفر بوجوده، لماذا لا نصبر على المكاره ؟ ولا ننظر للصبر انه انتظار سلبي، ألم يقل الرب ( لذلك نحن أيضًا إذ لنا سحابة من الشهود مقدار هذه محيطة بنا، لنطرح كل ثقل والخطية المحيطة بنا بسهولة، ولنحاصر بالصبر فى الجهاد الموضوع أمامنا )، ألم يقل الرب: ( واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين )، لماذا لا ننظر إلى التجارب السيئة بأنها طريقًا مؤديًا لله، لقد فشلت كل الفلسفات فى تفسير حكمة الله فى أشياء كثيرة فى كل الكون هل معنى ذلك أننا نكفر ؟!

أم نعيد التفكير بطريقة جديدة فيما يحدث لنا، وبدلًا من أن نسأل ( لماذا ؟، نسأل كيف ؟، كيف نصل
لله عز وجل ونتواصل معه قلبيًا وروحيًا كي ينير لنا أبصارنا ونفهم أقداره فينا.. كي نستطيع الدخول فى ملكوت الله ويتيح لنا من نوره فيكشف لنا عن حكمته التي نريد أن نعرفها، ألم يقل الله ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين ) فمن يجاهد مخلصًا فى جهاده الفكري لله بحثًا عن الله سيصل له بالتأكيد، ولكن كيف يهدي الرب إنسانًا استسلم لأفكاره الضالة، وسلّم روحه للشيطان، كما فعل ( فاوست ) فى أسطورة جوته ومضى عقدًا مع الشيطان تصورًا منه أنه تخطى كل الحدود والغيبيات التي تمنعه من المعرفة ولكنه يصطدم بحائط منيع لا يستطيع أن يجتازه حتى مع استعانته بقوى شيطانية.
وأخيرا وليس آخرا، إن الله يتقرب من عبده إذا قرر العبد بإخلاص التقرب لله.

وللحديث بقية.