الشيخ طه البشرى يرد على "القرآني الأول": السُنة الصحيحة شرع من الله (4)
السُنة الصحيحة شرع من الله وهى لا تعارض القرآن.. وقد نقلت إلينا نقلًا لا شبهة فيه
أثبتنا أن السنة بالجملة أصل من أصول الدين كالكتاب، وأنها بهذا الوصف نقلت إلينا نقلًا متواترًا لا شبهة فيه، أما هى بحسب الشخص فمنها المتواتر وهو «ما رواه جماعة لا يتوهم تواطؤهم على الكذب ويدوم هذا الحد فيكون آخره كأوله وأوسطه كطرفيه» وهو موجب لليقين كالعيان علمًا ضروريًّا فهو كالكتاب فى صحة متنه، وصدق عزوه بحيث يكفر منكره قطعًا، لأنه جحود للمستيْقَن بأنه من الله- وفيها المشهور «وهو ما كان آحاديًّا فى الأصل ثم اشتهر شهرة مستفيضة»- ومنها الصحيح وهو «ما رواه العدول الضُبَّاط الحُفَّاظ من غير شذوذ ولا علة». وغير ذلك من أقسام السنة الصحيحة كثير.
حكم الله بين السنة والكتاب حيث قد ثبت أن السنة الصحيحة شرع من الله تعالى، مُتَعَبَّدٌ بها فيما كان عبادة ومتعبد بحكمها فيما كان معاملة، فهى لا تناقض الكتاب مطلقًا ولا دليل هناك على دعوى «وقوع التضارب والاختلاف» بين ما ورد من الأحاديث الصحيحة المعمول بها فى شرع الله القويم، لأن منشأ هذا التضارب المدَّعى لا يخلو إما أن يكون من الأصل أو النقل أما من الأصل فمستحيل لأنك ولا شك تعترف معنا بوجوب الصدق والفطنة والعصمة لجميع الأنبياء وليس بشىء من هذه الواجبات أن يُحدث النبى فى شرع الله بالمتضارب المتناقض، بل هذا- والعياذ بالله تعالى- كذب لا يجوز لمسلم أن يرمى به نبيًّا معصومًا، وأما من حيث النقل فقد بينا لك منه وجه الحجة وقلنا: إن نقلة السنة هم العدول الثقاة. وليس «ولوع المتقدمين بجمع روايات الحديث مدعاة إلى وقوع التضارب والاختلاف فيها» بل هو أدعى إلى حفظها وصيانتها. ولعلك لم يفُتك قراءة شىء من تاريخ أولئك الأخيار العاملين الذين تصرمت أعمارهم فى هذا السبيل. وإليك كثيرًا من هؤلاء كالبخارى ومسلم ومالك والشافعى وأضرابهم الذين هم الحجة فى نقل الحديث الصحيح المعتد به والمعوَّل عليه وقولك بعد: «إن المجتهدين تحققوا أن أكثر الأحاديث موضوعات!» هو حجة لنا أيضًا، لأن تمييزهم للموضوع والضعيف تمييز- ولو بطريق اللزوم- لغيره وهو الصحيح.
قلت: «المجتهدون» وهم إما الصحابة الذين تلقوا الأحاديث بآذانهم عن فمه الشريف بلا واسطة، والحديث فى حق هؤلاء لا يختلف إلى صحيح وموضوع وضعيف، لأن هذه الفروق إنما هى راجعة إلى قوة السند وضعفه، ولا يكون هذا فى حال تسمعه من الرسول الكريم، فإن الحديث كله فى حق سامعه منه عليه السلام- صحيح مقطوع المتن كالقرآن، وأما غير هؤلاء ممن لم يتلقَّ الحديث الكريم إلا بالواسطة، وهذه الواسطة إما أن تكون موجبة لليقين كما إذا كانت التواتر أو الظن بالخبر أو كما إذا كانت غيره من الطرق المعتبرة التى أقلها موجب أيضًا للعمل، وإن لم يكن موجبًا لليقين، إذ التكليف باليقين تكليف بما لا يطاق أو موجب للحرج على الأقل وهو مدفوع بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج} «الحج: ٧٨»، بل المجتهد ليس مكلفًا فيما إذا كانت الأحكام غير مقطوعة المتون كما فى الأخبار الأحادية إلا بالبحث والتنقيب للعمل بالأقرب إلى يقينه، وهو الأرجح فى ظنه والأخبار الأحادية الصحيحة تبلغ ولا شك هذا المقدار، فالعمل بها على هذا واجب، وأيضًا كون بعض أحكام الأحاديث ظنية- لأن سندها ليس إلا موجبًا للظن- لا يقدح فى وجوب العمل بها كما لا يقدح فى وجوب العمل ببعض أحكام الكتاب نفسه التى دلائلها ظنية، وإن كانت مقطوعة المتن، كل مجتهد يحملها على الوجه الذى يؤديه إليه مبلغ علمه وفهمه، فالقول بأن المجتهدين كلهم على حق ليس «قول باجتماع النقيضين» بل المراد أن الحق، على فرض كونه واحدًا، دائر بينهم وتعيينه فى جانب واحد دون الباقين تعسف، بل المراد أن كل مجتهد بحث عن الحق بما فى وسعه حتى اهتدى إلى النقطة التى يلزمه اتباعها دون غيرها، وهى التى يقال: إنها الحق بالنسبة له، والذى لا يجوز له التحول عنه، بل الذى خرج ببلوغه من عهدة التكليف، فلا بأس إذن بالقول بأنهم جميعًا على الحق من هذا الوجه.
وليس ثمة تعارض فى السنة الصحيحة- كما قلنا- لا للكتاب ولا لبعضها البعض. فإن الوارد فيها إما مُفَصِّل لما أجمل فى الكتاب أو مُظْهِر لما خفى أو غير ذلك مما يحويه معنى التفصيل والبيان. وأما ما يخالف ظاهره منها الكتاب فكما يرد فى كثير من الآيات يخالف بعضه ظاهر بعض فمُؤَوَّل فيه حتى يطابق النص الكريم سواء أخذنا بقول القائلين بنسخ السنة الصحيحة للكتاب إذا صح التعارض وامتنع التطابق أو ذهبنا مع الذاهبين إلى أنه لا شىء من السنة بناسخ للكتاب، لأنه لا يقع بينهما التعارض أصلًا، فلا تعارض هناك مطلقًا بين السنة والكتاب أما على الثانى فظاهر، وأما على الأول ففرق ما بين النسخ وهو إلغاء حكم بآخر- كما فى آيتى العدة- والتعارض ببقاء الحكمين المتناقضين جميعًا، ولا قائل به من هؤلاء أو أولئك.
وكذلك يقال فيما يرد من الأحاديث مخالفًا بعضه لظاهر بعض أى أنه يتأول فى أحدهما حتى يطابق الآخر أو يكون بعضه ناسخًا للبعض إذا تعارضا ولم يمكن التطابق. فاختلاف المجتهدين راجع إما إلى الاختلاف فى الفهم فيما كانت دلالته على الحكم ظنية، وهذا يستوى فيه الاستنباط من الكتاب والسنة، وإما إلى الاختلاف فى العلم بأن يتلقى الواحد منهم حديثًا لم يصح عند الآخر- مع طول البحث وفرط الجهد- أو لم يصل إليه علمه أصلًا. وقد يكون أحدهما ناسخًا أو مطلقًا والثانى منسوخًا أو مقيدًا مثلًا، ولا يقال: إن أحدهما على الباطل بعد إذ علمت ما قلنا فى هذا السبيل من أن المجتهد مكلف بما يؤديه إليه اجتهاده وإلا للزم الحرج وهو مدفوع على أن هذا ليس خاصًّا بالاجتهاد من السنة بل ومن الكتاب أيضًا كما بينا.
أما خبر: «إذا روى لكم عنى حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإن خالف فردوه» فغير صحيح على أننا لو سلمنا صحته فلا يمكن أن يكون معناه أن يحدث بما يخالف حكم الله فى كتابه وكيف وهو فوق عصمته أبلغ الناس للكتاب حفظًا وأعظمهم لآياته تدبرًا، وأكثرهم لها ذكرًا، فتعين المعنى إذا صح الخبر: إذا روى لكم عنى حديث فاشتبه عليكم وجه الحق فيه فاعرضوه على كتاب الله فإذا خالف فردوه فإنه ليس من قولى، والله أعلم.