رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: مليارديرات الإعلام.. من أين لكم كل هذا؟ التركة المنفلتة «2»

جريدة الدستور

-محمود سعد كان يتقاضى ٩ ملايين جنيه أثناء تقديمه برنامجًا على التليفزيون المصرى بشهادة من أنس الفقى
-ثروة إبراهيم عيسى تقترب من المليار جنيه.. ولميس الحديدى حصدت الكثير من نظام مبارك
- عمرو أديب يضع نفسه فى خدمة من يدفع أكثر لذلك اتجه للعمل فى قناة إم بى سى بـ٣ ملايين دولار سنويًا
- منى الشاذلى كانت «حصان طروادة» الذى دخل منه الإخوان إلى الحياة العامة المصرية وذلك عبر برنامج «العاشرة مساء»


يمكننى أن أتقمص هنا روح الباحث الإعلامى، وأبدأ حديثى عن تركة الإعلام المنفلتة بإدانة المحتوى الذى تقدمه صحف مصر ومواقعها وقنواتها، ليكون من السهل علىّ الحديث دون التورط فى اقتحام حقيقى لملف أصبح مريبا لا يسمح لأحد بالاقتراب منه إلا وأصابه رذاذ كهنته، هؤلاء الذين يضعون على باب قلعتهم ترسانة مدفعية يدكون بها من يفكر فى قطع الطريق عليهم، ولو من باب المناقشة التى تقود إلى الفهم، وليس من باب النقد الذى يعنى الرفض. 

أعتقد أنكم تريدون الحقيقة تلك التى يدعى كثيرون أن أحدًا لا يعرفها، رغم وضوحها.

بعضنا يتحجج فقط أن الحقيقة نسبية حتى يهرب من مواجهتها، لأن وطأة مواجهتها مرهقة ومكلفة. 

لم يفسد ما يقدمه الإعلام إلا عندما فسد الإعلاميون. 

ولم يفسد الإعلاميون إلا عندما أصبحت دخولهم بالملايين رغم أن ما يبذلونه من جهد لا يستحق. 

قبل سنوات كانت حكايات الثروة الأسطورية فى الإعلام المصرى قليلة جدا، لم يكن لدينا بارونات يعيشون حياة الأمراء والملوك، ويملكون حسابات فى بنوك لا يعرفون على وجه التحديد عددها. 

كانت الحكايات التى تتسرب إلينا من مبنى جريدة الأهرام العتيق فى شارع الجلاء بوسط القاهرة تشعل الخيال، إبراهيم نافع رئيس مجلس الإدارة يحتفل كل عام بعيد ميلاده بحضور الصحفيين والكتاب وجميع العاملين معه، وهو الاحتفال الذى لم يكن ينتهى إلا بعد إجراء سحب على سيارة أحدث موديل، يحصل عليها صاحب النصيب، كل مدعو كان يدخل الاحتفال ومعه رقم، وصاحب الرقم الفائز ينال هدية الأستاذ. 

كل صحفى كان يحلم أن يدخل الأهرام، لا ليكون صحفيا عظيما، ولكن ليحضر ولو مرة الاحتفال بعيد ميلاد إبراهيم نافع، عل وعسى أن يصادفه حظه السعيد ويحصل على السيارة المرصودة. 

فى هذه السنوات التى لا يمكن اعتبارها بعيدة بحكم الزمن، كان المليون جنيه رقما ضخما ومزعجا لمن يسمعه فى عالم الصحافة، وقد يكون حقد كثيرين من الصحفيين على إبراهيم نافع، أنه وفيما يقال كان يحصل على ١٠ ملايين جنيه نسبته من أرباح مؤسسة الأهرام التى كانت تتجاوز الـ ١٠٠ مليون جنيه سنويا، ولأنه كان رئيس مجلس الإدارة فحقه قانونا أن يحصل على ١٠٪. 

بحسبة بسيطة ستعرف أن إبراهيم كان يحصل من الأرباح شهريا على أقل من مليون جنيه، ورغم ذلك كان الصحفيون يتعاملون معه على أنه هارون الرشيد فى بلاط صاحبة الجلالة، وأعتقد أن نافع فى سنواته الأخيرة عندما كان يعرف ما يحصل عليه الإعلاميون من ملايين، كان يسخر من نفسه ومن الجميع، فقد كان مبتدئا فى عالم مليارديرات الإعلام. 

لقد رحل كتاب كبار ومفكرون عظام دون أن تقترب ثرواتهم من المليون جنيه، وستتعجب عندما أقول لك، إن كثيرين منهم لم يدخروا فى أى وقت من أوقات حياتهم ١٠٠ ألف جنيه على بعضها، كان ما يأيتهم ينفقونه، دون أن يمسكوا لأنفسهم أو لأبنائهم بشىء. 

كنت أجرى حوارا صحفيا مع الكاتب الراحل صلاح عيسى فى شقته بشارع أحمد عرابى بالمهندسين، وقبل أن تقف عند حى المهندسين الذى كان يعيش فيه صلاح، سأقول لك إنها كانت شقة من شقق الأوقاف زهيدة الإيجار. 

صلاح يجلس بين كتبه وصحفه القديمة، وراءه تاريخ طويل من الكتابة والفكر والمعارك، وعدت نفسى بحوار ثرى، فإذا به يتوقف، ويقول لى بنبرة حزينة: تخيل يا أخى بعد عمرى ده كله يجى حتة عيل أنا قريت كتب بعدد ساعات عمره، ودخله أكتر من دخلى بـ١٠ أضعاف، والغريب إن العيال دى بيزورونى هنا وياخدوا كتبى ونصايحى وبيعملوا بيها برامج وأنا قاعد أتفرج عليهم. 

حاولت التخفيف عن الكاتب الكبير صاحب التاريخ العريض، قلت له: فلوس إيه يا عم صلاح.. أنت قيمة كبيرة فى حياتنا، فرد بعصبية شديدة: يا أخى بلا قيمة بلا زفت.. عملت أنا إيه بالقيمة دى، باقول لك عيل دخله أكتر منّى ١٠ مرات. 

ظل صلاح عيسى حتى أيامه الأخيرة لا يقبل الظهور فى أى برنامج تليفزيونى إلا بعد الحصول على مقابل مناسب، ربما ليعوض ما فاته من ثروة وهو كبير، وأعتقد أن الغصة التى وجدتها فى حلقه وهو يتحدث معى ظلت ترافقه حتى مات. 

سنوات قليلة مرت على هذا الحوار، لندخل عوالم من الخيال فيما يتعلق بدخول الإعلاميين وثرواتهم وما يملكون من عقارات، فقد استسلموا لرجال الأعمال، هؤلاء الذين خططوا مبكرا للسيطرة على الإعلام، كما سيطروا على كل شىء، وفتحوا خزائنهم بلا حساب، وأصبحت الشيكات المفتوحة بأسماء صحفيين وإعلاميين كبار هى اللغة الوحيدة التى يعرفها سوق البيزنس والإعلام. 

على شاشة التليفزيون المصرى كان النجم اللامع محمود سعد يتحدث بنشوة الانتصار بعد ثورة يناير، كان محمود واحدًا من الإعلاميين الذين استعانت بهم الدولة فى تليفزيونها الرسمى بعد نجاحه فى قناة دريم الخاصة التى بدأ بثها فى العام ٢٠٠١، ولم يكن صحيحا أن محمود كان معارضا أو مناوئا أو صاحب وجهة نظر مخالفة للنظام، بل كان واحدا من أبنائها، ينفذ كل ما يطلب منه، وخدمه فى ذلك طريقته العفوية التى أحبها الناس. 

فجأة طلب أنس الفقى، وزير الإعلام السابق، عمل مداخلة، لم يتحدث الفقى فى مداخلته الشهيرة التى كانت بمثابة مفصل مهم فى تاريخ الإعلام الحديث ليدافع عن نفسه، أو يبرر سياساته التى انتهجها فى الإعلام فى سنوات مبارك الأخيرة، ولكن ليفضح محمود سعد، وتحديدا من نقطة ما يتقاضاه من ملايين كثيرة، ثم يتحدث بعد ذلك عن الفقراء وأزماتهم ومشاكلهم. 

أنس الفقى كان عارفا بما يقوله، واجه محمود بأنه لم يكن ثائرا، بل استغل ثورة الشباب فى ميدان التحرير وحاول اختطافها مثل غيره، بل كان يجلس فى بيته بالبيجاما يشاهد ما يحدث فى التليفزيون، بينما كان هناك من يحمون ماسبيرو الذى كان هناك مخطط لاختطافه. 

لم يكن هذا هو المهم، كان هناك ما هو أهم، فقد كشف الفقى أن محمود يتقاضى ما يقرب من ٩ ملايين جنيه سنويًا، كان الرقم صادما جدا، حاول محمود أن يخفف من وقع الصاعقة على الناس، فهو لا يحصل على هذه الأموال من تليفزيون الدولة، ولكن من الإعلانات التى يحققها برنامجه، وعليه فهو يستحق ما يحصل عليه. 

كان فى كلام محمود سعد بعض من المنطق، إلا أن صورته اهتزت كثيرا، انصرف عنه كثير من جمهوره، فلا يعقل أن من يرفع راية الدفاع عن الفقراء يحصل على كل هذه الملايين. 

بعد الثورة فوجئ جمهور الميديا فى مصر بأن هناك صحفيين عاشوا فى ثوب المعارضة يدخلون شركاء فى ملكية قنوات فضائية، وتساءل كثيرون: من أين لإبراهيم عيسى الذى كان يروج لأنه كان مطاردا فى عصر مبارك بالملايين التى دخل بها شريكا فى قناة التحرير، وهى القناة التى خرج منها بعد شهور وقد حصل على ملايين أخرى. 

إبراهيم عيسى يمثل لغزا كبيرا فى الحياة الإعلامية المصرية، لا ينكر أحد عليه موهبته ولا كفاءته ولا عمله الدائم والمتواصل، لكن العمل الإعلامى المجرد لا يمكن أن يكون سببا فى تكوين ثروة تقترب من المليار جنيه، إن لم تتجاوزه، قد يكون هو النموذج الوحيد الذى يؤكد قاعدة أن المعارض الشرس الذى يحاربه النظام يكون صاحب ملايين.

قبل الثورة بسنوات بعيدة، صادفنى أحد متابعى إبراهيم عيسى، وجدته مصدوما جدا فى كاتبه المفضل.

قال لى تخيل أن إبراهيم اشترى شقة بمليون جنيه؟

قلت له: وما فى ذلك؟ الرجل يعمل، ومليون جنيه ليس كثيرا.

قال لى ببراءة شديدة: لا أعتقد أن إعلاميا شريفا يمكن أن يشترى شقة بمليون جنيه، خاصة أنه كان يعيش فى شقة متواضعة فى حى فيصل. 

تشككت فيما يقوله محدثى، سألته: ومن أين عرفت أن إبراهيم اشترى شقة بمليون جنيه؟
قال لى: لأننى اشتريت شقة فى نفس العمارة بنفس المبلغ؟ 

وقبل أن أتعجب من شرائه شقة بمليون جنيه بينما ينكر على إبراهيم ذلك، قال لى: أنا رجل أعمال وعندى تجارتى وأعمالى الكثيرة، أما هو فإعلامى دخله معروف، فمن أين له بهذا المليون الذى اشترى به شقة، وهو ما يعنى أن لديه ملايين كثيرة. 

ولا أدرى ما الذى يمكن أن يقوله محدثى عندما يعرف أن إبراهيم وعندما حدثت مشكلة فى أحد حساباته فى أحد البنوك، زاره فى مكتبه ٦ من العاملين فى البنك ليناقشوا معه المشكلة، وما الذى يمكن أن يشعر به وهو يزوره فى قصره المنيف الذى يعيش فيه الآن. 

الغريب أن بارونات الإعلام كانوا يحصدون المال ممن يختلفون معهم ولا يؤمنون بمواقفهم.
لقد أذهلنى مرة ما سمعته من المذيعة الشهيرة لميس الحديدى، وكنا نحضر فى العام ٢٠٠٦ تقريبا مؤتمرا تضامنيا فى مقر جريدة العربى الناصرى بشارع يعقوب بوسط القاهرة فى واحدة من قضايا الصحفيين، وجدتها تقف مع الكاتب الصحفى مجدى الدقاق. 

كان الدقاق يتحدث عن عرض تلقاه من الحزب الوطنى ليرأس تحرير جريدة «الوطنى اليوم» التى صدرت على أطلال جريدة مايو، وإذا بلميس الحديدى تقول له: اوعى تقبل يا مجدى.. إزاى تدافع عن الحزب الوطنى ومواقفه؟. 

الغريب بالنسبة لى فى هذا الموقف أن لميس الحديدى نفسها كانت واحدة من قيادات حملة مبارك الانتخابية فى ٢٠٠٥، وكانت تتقاضى مقابل هذا مبالغ طائلة، ولم يكن مبارك إلا مرشح الحزب الوطنى، الذى تطالب مجدى الدقاق بعدم الدفاع عن مواقفه. 

هذا الموقف فسر لى كثيرا من أداءات لميس الحديدى خلال مسيرتها الإعلامية، فهى تحصل على المال من أى جهة سواء تتفق معها أو ترفضها، المهم أن تحصل على المال. 

لقد سأل كثيرون عن سبب غياب لميس الحديدى وحجبها عن الظهور فى برنامجها، دون أن يعرفوا أنها تاجرت بموقفها الذى لا أجد له مبررا من الدولة المصرية الآن.

قبل أن تعلن لميس أنها ستعود ببرنامجها، وهو ما لم يحدث، أجرت اتصالات مع قناة عربية شهيرة، وطلبت من أصحابها أن تقدم برنامجا على شاشتها، لأنها لا تقول ما تريده على شاشة مصرية، وحتى تبرر موقفها، ادعت بطولات عديدة عن الصعوبات التى تلاقيها، وهو ما عرفه من يقومون على الإعلام المصرى الآن، ولم يكن أمامهم إلا أن يستوعبوا لميس، التى أرادت أن تفرض شروطها المالية والإعلامية، ولما رفضت الشروط، حاولت تسويق الأمر على أنه حرب تدار ضدها، رغم أن ما جرى يدينها ولا ينصفها من الأساس. 

لقد ارتضى عمرو أديب أن يضع نفسه فى خدمة من يدفع أكثر، وأعتقد أن توقيع عقده مع قناة إم بى سى مصر، وهو العقد الذى قيل إنه يتجاوز الـ ٣ ملايين دولار سنويا، وبشرط جزائى يصل إلى ٥ ملايين دولار، لم يكن إلا بحثا عن المال، فقد كان عمرو يتحدث كما يريد دون أن يعترض طريقه أحد، أو يمنعه أحد من قول شىء، بل حصل عمرو على دعم معلوماتى هائل، حقق من خلاله نجاحات وخبطات إعلامية، ما كان يصل إليها بمجهوده. 

يعرف عمرو أديب أنه لا يسعى إلا إلى المال فقط، وأعتقد أنه يعرف جيدا المذيع الذى كان يتلاعب بالبورصة المصرية من خلال الأخبار المفبركة حتى يحقق أكبر مكاسب هو وأصدقاؤه. 

تقول الرواية إن المذيع الشهير الذى كان يتناوب على الجلوس إلى جواره أكثر من مذيع، كان يذيع أخبارا غير صحيحة فى برنامجه عن أسهم معينة، وفى اليوم التالى يشترى هو وأصدقاؤه هذه الأسهم تحديدا، وبعد أيام يعود لنشر أخبار أخرى غير صحيحة أيضا عن نفس الأسهم، فيرتفع سعرها فى اليوم التالى مباشرة، فيبيع هو وأصدقاؤه هذه الأسهم، ليحقق من خلال هذه العملية السريعة عدة ملايين، دون النظر إلى جرم ما يفعله ولا مخالفته أى قاعدة من قواعد العمل الإعلامى. 

يمكن أن تختلف أو تتفق مع منى الشاذلى، يعجبك ما تقدمه أو ترفضه تماما، لكنك لن تستطيع أن تتجاهل دورها الذى لعبته فى الحياة الإعلامية المصرية. كانت منى فى وقت ما رأس الحربة التى خاض بها خصوم الدولة المصرية حربهم التى اعتبروها مقدسة رغم أنها لم تكن كذلك أبدا، جاءت من راديو وتليفزيون العرب إلى قناة دريم، لتتحول من مذيعة منوعات إلى مذيعة سياسة. 

رحلة طويلة تنقلت خلالها منى من دريم إلى إم بى سى مصر ثم استقرت فى سى بى سى دون أن يعرف أحد إلى أى جهة سترحل، ربما ستخرج من سى بى سى إلى بيتها فلا أحد يعرف، وخلال هذه الرحلة كانت بوقا لآخرين، تحقق ثروة طائلة من وراء عملها، قد تكون ثروتها مستحقة، لكنها بالنسبة لكثيرين من جمهورها مذهلة. 

كانت منى الشاذلى فى برنامجها «العاشرة مساء» أقرب إلى حصان طروادة، الذى دخل منه الإخوان المسلمون إلى الحياة العامة المصرية، فقبلها لم يكن أعضاء الجماعة يظهرون على الشاشات المصرية، وقد فعل من يديرونها ذلك فى إطار حربهم على الدولة المصرية، فمنحتهم تواجدا كبيرا، وأعتقد أن هذه خطيئة إعلامية لن تستطيع منى أن تتخلص منها بسهولة. 

على نفس الخط كانت صحيفة المصرى اليوم هى حصان طروادة الثانى الذى دخل من خلاله الإخوان إلى الحياة العامة المصرية، بل كانوا أصدقاء الجريدة التى تحولت فى مرحلة معينة إلى لسانهم الذى يتحدثون به، ولا يمكن أن أعيب على أى ممن تولوا رئاسة تحرير الجريدة ذلك وهم كثيرون، فقد كان هذا توجه صلاح دياب صاحب الجريدة الذى كون من ورائها ثروات طائلة. 

يحلو لصلاح دياب أن يقول إن جريدته «المصرى اليوم» كبدته خسائر طائلة، وهو ما رفضته منه فى المكالمة التليفونية الوحيدة التى دارت بينى وبينه، قلت له: لقد حققت مئات الملايين من وراء امتلاكك للمصرى اليوم، فأنت تستخدم الجريدة كرأس حربة فى معاركك مع الدولة، وهى حرب كنت تربحها دائما، وليس معقولا أن تعتبر ما أنفقته على الجريدة خسائر، فهى الخسائر التى جنيت من ورائها مكاسب لا تعد ولا تحصى.. وأعتقد أنه لا يزال يفعل ذلك.
هذه أمثلة فقط لمن كونوا ثروات طائلة من الإعلام فى السنوات الأخيرة، وكان طبيعيا أن يتركوا خلفهم تركة منفلتة تماما. 

لقد صاغ هؤلاء الإعلام المصرى على هواهم، تحول كل إعلامى إلى كيان مستقل، وتحولت البرامج إلى منصات شخصية مطلقة، يتحدث من خلالها كل إعلامى لساعات طويلة وممتدة فى أى شىء وكل شىء، ودون دراية غالبا بأى من الملفات التى يتحدث فيها. 

كان لذلك أبلغ الأثر السيئ على الإعلام المصرى كله، ويمكن أن تتلخص الحالة فى أننا عانينا لسنوات من إعلاميين يفرضون آراءهم الشخصية على الرأى العام، يقومون بتوجيهه إلى الوجهة التى يريدونها بمفرداتهم الخاصة ومعالجاتهم الذاتية، متجاهلين مصلحة الدولة العليا، ومتماهين مع مصالحهم الشخصية الضيقة جدا. 

كان طبيعيا أن يتم اتهام الإعلام المصرى بأنه مضلل تماما، ليس لأنه ينشر معلومات غير صحيحة أو غير دقيقة فقط، ولكن لأنه كان يشغل الناس عما يجب أن ينشغلوا به، لصالح قضاياهم واهتماماتهم الخاصة، وبدلا من أن يلتف الناس حول إعلامهم، انفضوا عنه تماما، بعد أن وجدوه ساحة للأكاذيب والشائعات والسطحية المطلقة، فمن يبحث عن المال لن يهتم كثيرا بالبحث عن مصلحة البلد أو مصلحة الناس. 

لقد انزعج الناس من العقود المليونية التى يوقعها الإعلاميون دون أن يتنازلوا عن شىء، على الأقل لصالح المهنة التى يعملون فيها، وكان طبيعيا أن تجد فارقا هائلا بين ما يتقاضاه المذيع وما يتقاضاه العاملون معه من معدين وفنيين، وهم الجسد الذى تقوم عليه الصناعة، لتتحول الساحة الإعلامية إلى سادة هم المذيعون والإعلاميون الكبار، وعبيد هم المعاونون لهم، ولم يكن غريبا أن يهتم الإعلامى الكبير بما يحصل عليه هو حتى لو لم يحصل من يعملون معهم على مرتباتهم الهزيلة بالشهور. 

لم أدخل هذه المساحة بالطبع للتشهير بأحد، أو الانتقاص من قدر أحد، أو محاربة أحد فيما يحصل عليه، ولكن لتصحيح الصورة وتعديل المسار، وهنا لدىّ اقتراحان محددان وبدقة. 

الأول هو أن تتم مراجعة ثروات الإعلاميين الكبار فى مصر، لا بد أن يقدموا إقرار ذمة مالية كاملا عن ثرواتهم وممتلكاتهم وما لديهم، ويقولوا للناس كيف حصلوا عليها، وعليهم أن يساهموا فى التبرع لبرامج الحماية الاجتماعية التى يستفيد منها الفقراء من جمهورهم، ولن أحدد نسبة معينة من هذه الثروات، بل سأترك الأمر لهم. 

والثانى أن تنتهى العقود المليونية التى يوقعها الإعلاميون الكبار مع القنوات الفضائية، فما يحصلون عليه جنونى، وإذا أردنا مجتمعا صحيحا، فلا يجب أن يكن فيه هذا التفاوت الهائل الذى يعبر عن خلل كبير، صحيح أن الإعلاميين يعملون كثيرا، لكن ليس معنى هذا أن يحصدوا كل هذه الثروات الهائلة.


أقرأ أيضا: تركة الإعلام المنفلتة (1)