رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عمرو سادات يكتب: حقيقة تنظيم داعش

جريدة الدستور

إننا إن أردنا أن نتكلم عن «داعش» وعن منهجها وفكرها؛ فينبغي أن نتكلم عن نشأتها، وما هي المكونات والأسباب التي أدت إلى ظهورها؟ ومن أي الأفكار السابقة نبتت تلك النبتة؟ وذلك لنعلم هل هي نبتة طيبة؟ أم نبتة خبيثة؟
وإذا أردنا أن نتكلم عن نشأة «داعش» فينبغي أن نذهب إلى عام (1342هـ) الموافق (1924)، وهو العام الذي سقطت فيه الدولة العثمانية بغدر ومكر من «أتاتورك» الطاغية!
نعم لا تعجب؛ فهذا العام وهذا الحدث هو سر كثير من الأحداث التي تدور وتحدث في هذا الزمان، وسيظل هذا العام وهذا الحدث -نعني: سقوط الخلافة العثمانية- هو النواة الأساسية في تكوين ونشأة الكثير من الحركات والتنظيمات التي تحمل وصف «إسلامية»، كيف كان ذلك؟
إنه منذ سقوط الخلافة العثمانية شعر كثير من المسلمين -لاسيما من الشباب المتحمسين- شعروا بانفراط عقد الأمة! وتفكك وحدتها، وأن الضياع يتهددها ويتوعدها! فعاشوا على أمل عودة الخلافة( )، وسعى كثير منهم إلى تحقيق ذلك!
حتى نشأ بعض الشباب المتحمس على هذا الحلم ومنهم «حسن البنا» الذي عاش على أمل أن يكون هو خليفة المسلمين، وظل يسعى إلى وضع حجر الأساس؛ حتى أنشأ جماعة الإخوان المسلمين عام (1347هـ) الموافق (1928)، فوضع المنهج ورسم الخطة وثبَّت الأركان ووضع الأصول! والتي لا يمكن -في نظره ونظر أتباعه- أن يُفهم الإسلام إلا من خلالها!
فإن من أركان بيعة الإخوان المسلمين ركن «الفهم»، والمقصود به كما قال حسن البنا في رسالة التعاليم: «أيها الأخ الصادق: إنما أريد بالفهم: أن توقن بأن فكرتنا (إسلامية صميمة)، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز» .اهـ( ).
وكان من دعائم هذه الجماعة ما يعرف بـ«التنظيم الخاص»، وهو جيش خاص بالجماعة، مسئول عن إزاحة وتصفية أعداء الجماعة، والدفاع عن الجماعة إذا استدعى الأمر حمل السلاح( ).
ثم قُتل حسن البنا، وخلفه في التخطيط والتنظير للجماعة «سيد قطب»( )، والذي بلور قضية التكفير، وأظهر ما كان مخفيًّا، وصرح بما لمح به من سبقه؛ فاعتبر المساجد معابد والديار ديار كفر! وأن البشرية ارتدت عن لا إله إلا الله! التي لا تعني -في تصوره وتعريفه- إلا أن الحاكمية لله؛ فأعظم الشرك عنده الحكم بغير ما أنزل الله؛ إذ الألوهية هي مرادف «الحاكمية»!
وباتت فكرة التكفير والدعوة إلى الثورة والانقلاب على سائر أنظمة الحكم تسيطر على كتاباته ومقالاته( )، وتابعه على ذلك أخوه محمد قطب، فصارا من كبار المنظرين للفكر التكفيريّ إضافة إلى «أبي الأعلى المودوديّ» فتولد من زواج التكفير وحمل السلاح مولود مشوه! إذ خلفهم على ذلك عدة تلاميذ تتلمذوا على كتبهم ومقالاتهم ونشئوا على أفكارهم، من أشهرهم «شكري مصطفى» مؤسس التكفير والهجرة، والتي من آثارها التوقف والتبين.
ومن أشهرهم أيضًا سيد إمام الشريف، والمعروف بينهم باسم «الدكتور فضل» وكان يخرج كتبه قديمًا باسم «عبد القادر عبد العزيز»! وكتبه في هذا الباب تعد من أكبر المراجع عند هؤلاء القوم، وهو يعد شيخًا لأيمن الظواهري قبل وبعد سفره إلى باكستان في عام (1403هـ) الموافق (1983).
ومن كبار تلاميذهم أيضًا «عبد الله عزام» وهو المنظِّر للجهاد منذ أن سافر إلى باكستان مدرسًا، فاقترب من الأفغان الذين كانوا لثلاث سنوات خلت يحاربون الاتحاد السوفيتيّ، ثم أسس مكتب خدمات للمجاهدين عام (1404هـ) الموافق (1984)، وأسس مجلة «الجهاد» والتي نشر من خلالها أفكاره وتنظيراته، وكان من ضمن نظرياته أن الجهاد وتحرير أفغانستان يبدأ بالتخلص من حكام المسلمين الكفار! فالعدو القريب قبل العدو البعيد( )!
وقد كان عبد الله عزام هو الأب الروحيّ لـ«أسامة بن لادن» الذي كان يُغدق على المكتب والمجلة بأمواله الطائلة، وقد قام بعدُ بالاستقلال عن مكتب الخدمات وقام بإنشاء تنظيم «قاعدة الجهاد» عام (1408هـ) الموافق (1988) -وكان ساعده الأيمن بعدُ فيه هو «أيمن الظواهريّ» وتم إنشاء هذا التنظيم ليكون خاصًا بالوافدين العرب!
وظل هذا التنظيم -أعني: القاعدة- يستمر في الانتشار في الدول العربية مستعينًا ومعتمدًا على الحالة النفسية التي يعانيها كثير من الشباب المتحمس الذي تغلبه غَيرته على دينه، لاسيما مع ما يرى من محرماتٍ وانتهاكاتٍ للشريعة! كما اعتمدوا على شعار «إعادة الفريضة الغائبة فريضة الجهاد» وكذلك ما قام عليه منهجهم من تكفير جميع الحكام، والترويج لفكرة «شغور الزمان من حاكم شرعيّ»( )، يقولون: لاسيما وقد عقد هؤلاء الحكام الهدنات والمعاهدات مع الكفار الذين يحاربون المسلمين في بلاد أخرى! ولذا فإن الشباب يعيشون في ديار كفرية يجب عليهم إما تغييرها أو الهجرة منها!
ومن هنا انتشر فكر «القاعدة» بل انتشرت هي بذاتها وصار لها في كل دولة إمارة، ومن تلك الدول، دولة العراق والتي صارت مناخًا مناسبًا! لظهور فكر القاعدة لاسيما بعد دخول الأمريكان في (1423هـ) الموافق (2003).
لقد كان أمير القاعدة في العراق هو «أبو مصعب الزرقاويّ» والذي كان قبل ذلك أميرًا لجماعة «التوحيد والجهاد»، ثم بايع أسامة بن لادن، وصار أميرًا للقاعدة في بلاد الرافدين، ثم جمع الكتائب والفصائل المقاتلة في العراق تحت «مجلس شورى المجاهدين» حتى مات أبو مصعب في (1426هـ) الموافق (2006)، فخلفه على إمارة القاعدة في العراق «أبو حمزة المهاجر» وهو الذي أعلن عن انخراط تنظيم القاعدة واندماجه مع تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» في هذا العام.
وهنا ولد تنظيم الدولة الإسلامية، وانتسب لأب ظنه شرعيًّا! هو «تنظيم القاعدة»، فبايع أبو حمزة المهاجر «أبا عمر البغداديّ» أميرًا للدولة الإسلامية في العراق! فصارت القاعدة وهذا التنظيم شيئًا واحدًا، وقد أرسل أبو حمزة المهاجر رسالة إلى أميرهم أسامة بن لادن يبيّن فيها أن مجلس شورى المجاهدين قد أخذ العهد على أبي عمر البغداديّ أن ولاءه لأمير القاعدة أسامة بن لادن، وأن الدولة تابعة لجماعة «قاعدة الجهاد».
وأبو عمر البغداديّ هو المؤسس لهذا التنظيم -أعني: تنظيم الدولة الإسلامية في العراق- وظل أميره إلى أن قتل في (1431هـ) الموافق (2010)، ثم تم عقد البيعة بالإمارة لـ«أبي بكر البغداديّ» وهو أميرهم الحالي، والذي أظهر وأبان عن ولاء «الدولة» لتنظيم قاعدة الجهاد، وأن مشايخ تنظيم القاعدة هم ولاة أمره!( ).
ولقد أثنى على أسامة بن لادن ووصفه بأنه شهيد الإسلام -كما يحسبه هو!- إمام زمانه وسيد عصره فخر الأمة وتاج عزها الجديد! ظل الأمر في تنظيم الدولة على هذه الحال، حتى قام ما يسمى بـ«الربيع العربيّ» واندلعت الثورات في البلاد العربية وكان من بينها «سوريا» فخرجت كلمة من أيمن الظواهريّ بعنوان «عز الشرق أوله دمشق» يدعو فيها للجهاد في سوريا.
وقد كان «أبو محمد الجولانيّ» في ذلك الوقت في العراق، واقترح على أبي بكر البغداديّ مشروعًا للجهاد في سوريا، فخوله أبو بكر ذلك، ووضع ثقته فيه ليكون قائدًا لـ«جبهة النصرة»، وأخذت الجبهة تتوسع في الشام، ومن ثَمَّ أعلن أبو بكر البغداديّ في (28) جمادى الأولى (1434هـ) الموافق (9/4/2013) عبر كلمة بعنوان: «وبشر المؤمنين» أن جبهة النصرة هي فرع لتنظيم الدولة في الشام، وأن أبا محمد الجولانيّ هو أحد جنود دولة العراق الإسلامية، وأنه يناصف معه شهريًّا ما يأتيهم في «بيت مال المسلمين»!
وأعلن عن انضمام جبهة النصرة للدولة الإسلامية في العراق، واتحادهما ليكونا شيئًا واحدًا تحت مسمى «الدولة الإسلامية في العراق والشام» والمختصر إعلاميًّا في «داعش» ودعا الجولانيّ وغيره من جنود الشام إلى «الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى»( )!
فكان هذا البيان صدمة لكل من الظواهريّ والجولانيّ وأتباعهما في كل مكان، وهو الشيء الذي عبّر عنه كل من الظواهريّ والجولانيّ بقولهما: لم نُستأمَر ولم نُستشَر فيه، وأنه مخالفة للتوجه العام للقاعدة ومخالفة لمراعاة المصالح والسياسة الشرعية.
واعتبروا ذلك فرضًا من الدولة لنفسها على الفصائل والجماعات الجهادية، وأنها انشقت وخرجت عن طاعة قادتها في تنظيم «قاعدة الجهاد»، ومن ثم قام أبو محمد الجولانيّ بإصدار بيان حول بيان أبي بكر البغداديّ، وكان مما جاء فيه: أن الدولة تُبنى بسواعد الجميع ممن شاركوا في الجهاد، لا بفصيل واحد! وأنه قد استجاب لطلب أبي بكر البغداديّ «بالارتقاء من الأدنى إلى الأعلى» ولذلك قام بتجديد بيعته لأميره «أيمن الظواهريّ»! أمير قاعدة الجهاد.
ومن هنا قام الخلاف بين جبهة النصرة وبين «داعش» التي تعتبر أن جبهة النصرة فرعًا لها في الشام، وأن خطاب الجولانيّ الأخير يعد انشقاقًا وخروجًا عن طاعة أميره أبي بكر البغداديّ! وخيانة منه لأميره! والخيانة ثمنها معلوم!
حتى جاء بعد ذلك أمر أيمن الظواهريّ باعتباره أمير تنظيم قاعدة الجهاد وهو التنظيم الأم، وكان ملخصه: فصل تنظيم الدولة عن الشام، وأن تبقى ولايتها على أهل العراق، ووكل «أبا خالد السوريّ» للإصلاح وفصل النزاع بينهم.
الأمر الذي أغضب أتباع تنظيم الدولة! واعتبروا ما فعله الجولانيّ خيانة لهم، وامتد الخلاف وتجاوز جبهة النصرة إلى أن وصل إلى تنظيم القاعدة فقد اعتبروه هو وأميره الظواهريّ قد خالف منهج الأوائل كعبد الله عزام وأسامة بن لادن وغيرهم لما قبل بيعة الجولاني له!
واشتد النزاع وكان بينهم صولات وجولات، ومن ثم لم يعتبر تنظيم الدولة بما قاله الظواهريّ بدعوى أنه حكم من قاضٍ لا أمر من أمير! وأنكروا أنهم أتباع القاعدة!، وامتنعوا عن طاعة أمره، أو بتعبيرهم: تنفيذ حكمه؛ لأن به مخالفات شرعية ومنهجية، كما قال ذلك أبو بكر البغداديّ، وفصّله أبو محمد العدنانيّ.
ومبنى ما ذكره في بيان هذه المخالفات على أن ما صدر من الظواهريّ حكم من قاض لا أمر من أمير؛ ولذلك خرج أيمن الظواهريّ يبيّن أنهم –أي: تنظيم الدولة- أتباع لتنظيم القاعدة، وأن قادة تنظيم القاعدة أمراء لهم، من كلامهم وخطاباتهم ورسائلهم إلى القاعدة، فعندئذ يجب عليهم السمع والطاعة.
ثم تم قتل «أبي خالد السوريّ» واتُّهم أتباع تنظيم الدولة بقتله، فخرج بيان نصيّ من «داعش» أنها لم تأمر ولم تستأمر في قتل أبي خالد السوريّ، وأن القرارات لا تؤخذ من الجنود وآحاد الرجال، وإنما من القادة واللجنة الشرعية بالدولة! وأخرج أبو محمد الجولانيّ رثاء لأبي خالد السوريّ وحذَّر أتباع تنظيم الدولة إن لم تكف عما تفعل أن يقتلعها من جذورها من العراق!
وتفاقمت الخلافات بينهم جميعًا، ثم قام «تنظيم الدولة» -على عادته من العجلة في مواجهة مخالفيه- بإعلان «الخلافة الإسلامية»( )! على العالم كله! وإلغاء اسم (دولة العراق والشام)، وأن أبا بكر البغداديّ هو خليفة المسلمين! الذي يجب بيعته في رقاب جميع المسلمين، ونصرته من جميع طوائف المجاهدين وكان إعلان الخلافة في (1 رمضان 1435هـ) الموافق (29/06/2014).
وكان مما قاله أبو محمد العدنانيّ المتحدث الرسميّ باسم الدولة، في إعلانه الخلافة بعد أن ذكر أمورا فارقة بين الخلافة والملك والسلطان:
«تلك حقيقة الاستخلاف، الذي مِن أجله خلقنا الله، ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم... وهذا الاستخلاف بهذه الحقيقة هو الغاية التي لأجلها أرسل الله رسله، وأنزل كتبه، وسُلّت سيوف الجهاد»( ).
واستمر القتال بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة إثباتًا للذات وفرضًا للقوة وحرصًا على الأرض كي تكون الشام تابعة لهم! ولم يتوقف هذا القتال رعاية للأشهر الحرم!( ).
ثم قاموا بعد ذلك بعقد هدنة وتركوا القتال -لا للأشهر الحرام!-، وإنما لما اجتمعت عليهم الجيوش، وبقي الخلاف بينهم وبراءة كل واحد من الآخر، والعجيب أنهم جميعًا ينتسبون إلى أسامة بن لادن ويتبنون فكره، فتولوا جميعًا أسامة بن لادن وبرئ بعضهم من بعض! وهذا له مثيل سيأتي إن شاء الله ذكره عند الكلام عن الخوارج الأول، فكن منه على ذُكر.
هذا ما يدور في الساحة إلى كتابة تلك الكلمات! ولعله ما يدور أيضًا وأنت تقرأ هذه السطور!
وبعد هذه النبذة المختصرة الموثقة عن نشأة «داعش» وعن حقيقة الخلاف بينها وبين جبهة النصرة، وبعد ما تبين أن الخلاف ليس منهجيًّا، وأنهما على منهج واحد، وعن الأفكار والمناهج التي نبتت منها، لعلك أيها القارئ اللبيب قد استطعت أن تكون فكرة عن عقيدة وفكر «داعش».
ولكن حتى يزداد الأمر وضوحًا؛ فإننا سنتعرف على عقيدة «داعش» وبنودها، وذلك من خلال عقيدتهم التي بثها وبيّنها المؤسس «أبو عمر البغداديّ».
ولنعرض هذه العقيدة على منهج الخوارج الأوائل مرورًا بالمتأخرين منهم، ثم على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة؛ لنعلم جميعًا هل «داعش» هي خلافة على منهاج النبوة؟ أم فرقة ضالة على منهج الخوارج؟!