حوارات لم تنشر من قبل ليحيى حقي
كشف ثقافي.. صاحب «قنديل أم هاشم»: لا شىء يؤلمنى أكثر من «النفاق الديني»
إذا أردت أن ترتب أدباءنا من الجانب الإنسانى، أو على الأقل الذين عرفتهم واقتربت منهم، فيمكننى أن أقول لك بكل يقين واطمئنان إن أديبنا الكبير يحيى حقى هو على رأس القائمة، يؤيدنى فى ذلك إحسان عبدالقدوس الذى قال للسيدة نهى حقى إنه يتصور أن أباها قبل أن يفتح درج مكتبه يستأذنه «ممكن أفتحك؟!»، وهو ما يشى بأن رهافة حس يحيى حقى كانت معروفة بين أقرانه، حتى وهو فى سكرات الموت، حينما كان يفيق يسأل ابنته: «هل تحدثت دون أن أدرى بما يسىء لأحد؟»، فكانت تطمئنه، وعكس كثيرين من الأدباء لم يكن يحيى حقى يهمل رسائل قرائه، فكان يطلبنى لزيارته، فأجده قد جمع لى الرسائل التى وصلته، ويطلب منى قراءتها له، ويتولى هو إملائى رده عليها، وكان بعض أصحاب الرسائل يطلبون إهداءهم كتبه، فأعطانى عشرين جنيهًا مصاريف البريد «كانت العشرون جنيهًا فى ثمانينيات القرن العشرين مبلغًا له شأن.. لذا لزم التنويه»، وتمنى يحيى حقى لو كان بقدرته لأهدى كل مؤلفاته لمن يطلبها، وبعد وفاته بقيت بضعة جنيهات أردت إعطاءها لوريثته، فاندهشت نهى يحيى حقى، وطلبت أن أخرجها صدقة على روح أبيها، وقد أتاحت لى تلك الزيارات الودية فرصة كبيرة لأن أتحدث مع يحيى حقى فى أمور كثيرة، كنت أسجلها معه أولًا بأول، حتى تجمعت لى مجموعة من الحوارات التى لم تنشر، وقد ملأت كشكولًا بلغت صفحاته المائة، وكان ثمن الكشكول خمسة وتسعين قرشًا، فى ذلك الزمن الذى يبعد عنا حوالى أربعين سنة، وقد وجدتها فرصة لأستعيد ذكرياتى مع أديبنا الكبير، وأنشر على صفحات «الدستور» ما قاله لى بنصه وحرفه ولغته البسيطة بساطة شخصيته، تحية لذكراه، بمناسبة اختياره شخصية معرض القاهرة الدولى للكتاب، لهذا العام ٢٠٢٢.
حدثنى يحيى حقى عن الأغانى التى تؤرخ لحوادث تاريخية، فقال:
أغنية «حسن أبوعلى سرق المعزة، والمعزة بيضة بيضة» من أوائل الأغانى التى سجلت حادثة تاريخية، وهى زواج على يوسف صاحب جريدة «المؤيد»، من صفية بنت الشيخ السادات، واللذين تم التفريق بينهما لعدم التكافؤ، وكنا نلاحظ أن مثل هذه الأغانى، تكون القيمة الكبيرة فى شطرها الأول الذى يؤدى المعنى التاريخى، وما يأتى بعد ذلك أى كلام.
هناك حادثة تاريخية أخرى سأقولها بصراحة، كشفت عنها أغنية «برهوم يا برهوم يا بوزيد هلال، تركب غالى ليه يا عنيه، تركب غالى ليه؟»، «هذه الأغنية مع الأسف الشديد تسجل مقتل بطرس غالى بيد إبراهيم الوردانى، فـ«برهوم»، هو إبراهيم، و«غالى» بالنص هو بطرس غالى.
أغنية غريبة جدًا كنا نسمعها، تقول كلماتها «كنت فين إمبارح، أياشن ورن، كنت باسكر وباحشش وباحمص بن»، لكن لما تتأمل كلماتها، تجد «أياشن ورن» تقصد «كتشنر» قائد الجيش الإنجليزى الذى كان يحكم مصر فى ذلك الوقت، فتحايل مؤلف الأغنية على أن ينطق الاسم صراحة.
وعكست الأغنية الشعبية أيضًا بعض التطورات الاجتماعية التى تصف تحرر المرأة، مثل أغنية «البيه والهانم عند الكوافير والتواليت»، وكانت هناك أغنية أخرى تنكت على موضة قص شعر النساء.
وفيه أغنية تقول لك «عندى كفاءة وبكالوريا، وسارح بابيع كابوريا»، وهى تسجل أزمة البطالة بين المتخرجين فى ذلك الوقت.
ولم يكن يكتب هذه الأغانى أدباء، بل يمكن أعضاء فى التخت الشرقى يجلسون على قهوة، ويكتبوا كلمتين، لا قيمة أدبية ولا فنية، إنما مجرد ذكرهم وتسجيلهم للحادثة التاريخية، يجعلهم يضمنون بيع أغنياتهم.
وعندما نصل لثورة ١٩ واعتقال سعد زغلول ومنع ذكر اسمه، تطلعلك أغنية «زغلول يا بلح زغلول»، إشارة إلى سعد زغلول، فالأغنية هنا تعبير عن نوع من الضغط السياسى، فيجد الشعب فيها تفريجًا عن نفسه، تعليقًا على الحوادث التاريخية.
ولما يخف الضغط يخف دور الأغنية كتسجيل للأحداث، وقد ساعدت الصحف وانتشار الأخبار على تراجع دور الأغنية بالنسبة للحوادث التاريخية.
من ناحية أخرى فيه أغانى غريبة جدًا تسجل لحياة المغنى نفسه وتترجم لحياته، يعنى منيرة المهدية لها أغنية تقول «من بعد ١٣ سنة ارتحت وارتاح قلبى»، وكانت منيرة متزوجة واحد اسمه حفنى، وكان صاحب فرقة وتياترو، طُلقت منه بعد ١٣ سنة.
واستعملت الأغنية أيضًا للدعاية التجارية، منيرة المهدية أيضًا لها أغنية تقول «مصر الجديدة هى الوحيدة، أبنى لى فيها أوضة»، وهذه كانت دعاية لشركة مصر الجديدة وقتها، التى كانت تبيع الأراضى.
وكما ترى أن الأغنية لعبت دورًا كمؤرخ وكإعلان، طبعًا اختفى هذا الدور الآن.
وسألت يحيى حقى عن الدور التاريخى الذى قامت به النكتة من ناحية أخرى، فقال: «عبرت بصحيح عن الأحداث، وأنا لى بحث عن (الفكاهة فى المجتمع المصرى)، وبحث آخر فى (هز القحوف فى قصيدة أبو شادوف)، وكنت أنوى استكمال أبحاثى فى هذا المجال، وأعمل سلسلة، لكن التنقل من سكن لآخر، والحاجة للكتب والمراجع، جعلت الظروف لا تتيح لى أن أكمل ما بدأته».
وكنت أتتبع أئمة الفكاهة فى مصر، كان عندنا الشيخ عبدالعزيز البشرى وحافظ إبراهيم، وواحد اسمه حسين الترزى، وإمام العبد، وآخر اسمه بايرون كان قاضيًا، وله نكت نعرفها ونتداولها، سأله أحدهم عن رأيه فى الجرافتة التى يلبسها ولها دبوس، فقال له: «جميلة من غير شك» وأخذه آخر إلى مدفن جديد بناه، فقال له: «دا مدفن يرد الروح!».
وحافظ إبراهيم له نكتة مشهورة، إنه لما خرج من دار الكتب ركب تورماى وداس على رجل راكب، فقال له: «موش تفتح عينك وتشوف إنت دايس على رجل مين؟، فقال له حافظ: تبقى مين؟ واحد راكب تورماى درجة تانية فى القاهرة فى شهر أغسطس، هتبقى مين؟».
وفيه نكتة للبشرى عن حافظ إبراهيم نفسه إنه بلّغ البوليس إن اللصوص سرقوا منه «الصيغة»، فقال له: «إنت عندك إيه غير صيغة منتهى الجموع، ما عندكش صيغ أخرى- يقصد صيغة لغوية- هيسرقوا منك إيه؟».
وأجمل نكتة خاصة بحسين الترزى، الذى أصيب فى آخر حياته بضعف بصره، فواحد ساحبه، فقال له: «تعرف يا فلان أنا زعلان ليه، لأن الجاكتة بتاعتى بتتنسل من كوعى»، يعنى دلالة على إنه يجره من كوعه، وهو تعبير جميل يدل على الشكوى من ضعف البصر، وعلى أنه يُقاد، وأن هذه هى المنطقة الوحيدة اللى بتتنسل لأنهم يجذبونه منها، وقد ذهلت بعد ذلك حينما وجدت هذا المعنى موجودًا فى ديوان ابن الرومى، وهو يصف بنت جرسونة فى خمارة، فقال إن ثوبها من ناحية كوعها متشرمط شوية، لأن الزبائن كل واحد يجرها من ذراعها، وأنا متأكد أن حسين الترزى لم يقرأ ابن الرومى، ولا حتى يعرفه، ولكن الأفكار الميالة للفكاهة تلتقط بسهولة.
وكان الخديو إسماعيل له بعض الشعراء الذين يتندر معهم، وكان اسمهم «ندماء» مثل على الليثى، وكان مشهورًا بالنكتة، ركب حمارًا مع صاحبه الذى قال له: «والله يا فلان إحنا زهقنا من الديوك الرومى والحمام والفراخ، نفسى فى يوم آكل بصارة أو مش، فقال له: ما تاكل فى بيتكم».
وعلى الليثى أيضًا كان راكب مع واحد خواجة، فمروا على مؤذن صوته حلو قوى، فقال الخواجة: «أنا عايز أسلم، ولما مروا على مؤذن صوته قبيح، زق الليثى حماره وقال له اجرى قبل الخواجه ما يكفر!».
وكان عندنا دبشة الجزار، وفى وقت من الأوقات كان لأم كلثوم نكت نتداولها.
قلت ليحيى حقى إن توفيق الحكيم قال لى إن دبشة الجزار كان يعلم أم كلثوم النكت، فنفى لى يحيى حقى هذه المعلومة، بدليل أنه من غير ما يكون معاها دبشة كانت تقول نكتًا كثيرة كنا نتداولها فى وقت من الأوقات، راحت مرة سرادق لتغنى، وكانت نزلت عليها شوية مطر، والناس تصفق لها، فقالت لهم: «بدل ما تصفقوا لى صفقوا للسرادق».
يضيف يحيى حقى: يعنى الوسط بتاعى كان متلهفًا على النكت التى خرجت من فم أرباب الفكاهة فى مصر، لكن يضايقنى النكت اللى فيها تشويه لسمعة البلد أو الشخص، أو النكت الخارجة، وهى بايخة جدًا، ومن أكبر العذابات إن مفيش حد يفهمها، أو يضحك لها، فكان مقلب كبير قوى، أذكر أنه كان لنا قنصل فى مرسيليا اسمه محرم، طلب منه صديق لنا يشترى له تذكرة سفر، فتأخر كثيرًا فى تلبية طلبه، فقلت له: ما دام محرم يبقى مفيش سفر. لقيته ما ضحكش، شعرت ببواخة شديدة جدًا. لذلك نصيحتى للشباب: حذار من التنكيت، يعنى لا تهجم على هذا الباب بسهولة، وحذار من التنكيت بالتلاعب اللفظى، لأنه من أبوخ ما يمكن، حتى إنه أفظع من القافية، القافية فيها نوع من الجمال، يعنى مثلًا واحد صاحبى قابلنى وقال لى: رايح فين؟، قلت له: رايح البوستة، تيجى معايا. قال لى: يمكن ما «بريد» آجى وياك. ما ضحكتش، شعرت أنها نكتة بايخة جدًا.
سألت يحيى حقى: يُقال إن الشعب المصرى من أيام الفراعنة كانت له القدرة على الفكاهة والتنكيت، لدرجة أن المتهم أمام المحكمة كان يتعمد إضحاك هيئة المحكمة لإفساد القضية، فهل الشعب المصرى وحده له هذه الطبيعة الخاصة، أم أن كل الشعوب لها هذه القدرة؟
فقال لى: كل الشعوب، وأضاف: وأنا فى الحج بأرمى الجمار على الشيطان فى منى، والزحام شديد جدًا، تعرضت للموت فعلًا، ووجدت واحد حاج مصرى لابس الفوطة بتاعته، أمكن إنه ينقذ نفسه بوقوفه على حافة تل، ووجدته يقول لنا: هى دى منى، اللى بيقولوا لنا فى مصر: عقبال حمام منى، حتى فى موقف الحج، لم ينس المصرى روحه المرحة وهو معرض للموت.
ولمزيد من التأكيد قلت ليحيى حقى: يعنى حضرتك حجيت، فقال لى: «سنة ١٩٢٧ لما كنت موظفًا فى قنصليتنا فى جدة، كنت موجودًا فى موسم الحج، فمن غير المعقول إنى ما حجش (يبقى كفر)، وكانت أغنى تجاربى فى الحياة».
وذكرته بما قاله عن بعض الموظفين الذين كانوا معه ويتكلفون الصلاة، فقال: أنا قعدت فى القنصلية مع زملائى لا أحد يصلى فيهم، ثم لما جاء الحجاج وجدتهم كلهم يصلون، أنا رفضت، لم أحب أن أجارى النفاق والمصانعة، ولا شىء يؤلمنى أكثر من النفاق الدينى، ومن المسائل التى تشغلنى جدًا «الدعوة والدعاة»، يؤلمنى أن الدعاة كلهم موظفون، ولا تدرى ما داخل الوظيفة من دسائس ومآرب وتلهف على الترقية والسفر للخارج، أنا متصور إن هموم الوظيفة واكلاهم، وبيقولوا الكلام الدينى كده، أداء واجب، يعنى أنا باتطلع إن من أملنا فى العالم الإسلامى أن يفرز أناسًا لا علاقة لهم بالوظيفة، وإنما يتطوعون للدعاية والدعوة للإسلام، يعنى، هل معقول أن هذا الجمع الضخم من خريجى الأزهر ودار العلوم والجامعات من القاهرة، مفيش واحد من أبنائه يتطوع يقول خطبة الجمعة، أو يلقى درسًا فى فضائل الدين الإسلامى، وهو غير موظف؟
لا تقوم الدعوة للإسلام على موظفين، هذا ما أعتقده، والإسلام انتشر فى بلاد كثيرة بغير دعاة، إنما من تجار سافروا لسنغافورة.. إلخ، وشافوهم بيعملوا إيه، ويتوضوا إزاى ويصلوا إزاى، وقالوا لهم إن الدين الإسلامى لا يفرق بين أبيض وأسود، وغنى وفقير إلا بالتقوى لله، وفيه يوم آخر للحساب، وربنا بيقولك تمتع بالدنيا لكن ما تنساش حق ربنا.. يعنى قالوا لهم مبادئ بسيطة يقبلها كل عاقل، فأمكن تحويل البلد كلها للإسلام، لا فيه فلسفة ولا علم ولا حاجة، فأنا مؤمن أن العالم الإسلامى مقصر أنه لم يفرز طبقة من الدعاة ليسوا من الموظفين، وهذا مأزق لا مخرج منه، وأعتقد أنه من النادر أن يعتلى المنبر من ليس مشغولًا بالترقية أو العلاوة.
قلت ليحيى حقى: ألا يحق للداعية لكى يتفرغ لدعوته أن يكون موظفًا حتى يحصل على لقمة عيشه؟ فقال لى: تكون له وظيفة أخرى، تاجر، أو عامل.. إلخ، ويكون راجل مؤمن وعارف الإسلام ويتحرر من الوظيفة، لكى لا يكون ذهنه غير مشغول بحاجة من دسائس الوظائف، ومن الأسف نعرف من تاريخ الأزهر أنه من أكثر المجتمعات التى انتشرت فيها دسائس الوظائف.
استدركت: لكن وزارة الأوقاف تخشى أن من يأتى من خارج موظفيها قد يستغل المنبر فى كلام غير مقبول أو غير مسئول، فقال يحيى حقى: هذا مأزق، نعمل فيه إيه، عيب قوى إن المجتمع الإسلامى ييجى قدام خطبة الجمعة وما يعرفش يعمل إيه، أذكر وأنا صغير، أن خطبة الجمعة كانت تنقسم إلى قسمين، قسم يقرأ من كتاب اسمه «الخطب المنبرية»، ورويت حكاية غريبة فى كتابى «خلّيها على الله»، إن فيه خطبة لوفاء النيل، وكنت أصلى الجمعة فى مسجد قرية، وكان النيل فى ذلك العام طاغيًا كأنه وحش علا الأرض المصرية وغطى وأتلف الدنيا، فإذا الخطيب يقرأ من كتاب: أبشروا النيل جاى لكم بالخيرات والبركات، واحمدوا ربنا على نعمته، وادعوا للنيل بالخير. أنا بابص للفلاحين اللى حواليا- حقيقة يا إبراهيم، وجدتهم حاطين رءوسهم بين ركبهم، دول جايين يلطموا، والخطيب يقول لهم اضحكوا وانبسطوا دا النيل جاى لكم بالخيرات، خيرات إيه دا إنت شايف إنه خارب بيتنا، فكان مفيش علاقة بين الخطبة وواقع الحال، وكان أغلب المساجد تقرأ من كتاب، لكن فيه ناس بدأوا يتبرعوا بتأليف خطبهم، فكان بيحصل انفلاتات عجيبة جدًا، وما نعرفش نضمنهم، فكانت نكبة كبيرة، ودلوقت نسأل أنفسنا: ما العمل فى خطبة الجمعة؟، لا يزال البحث جاريًا فى هذا الموضوع، هل نقول لوزارة الأوقاف تفرض نص واحد على جميع البلاد، تبقى مضحكة، نترك الحرية، ما نضمنش، إذن ما هو العمل؟، جميع مسائل الحلول الاجتماعية مرتبطة بالمستوى الثقافى للشعب ونضجه الروحى.