«الحرافيش» فى قبضة «المرشد العام»
أخذ الصراع على فكرة الخلافة، وما تعلق بها من خلط بين الدين والسياسة، شكلًا مؤسسيًا طيلة الفترة التى أعقبت ثورة ١٩١٩ حتى عام ١٩٢٨، انخرطت فيه كل من مؤسسة الحكم من ناحية ومؤسسة الأزهر من ناحية أخرى، ولم يكن لدى الشعب موقف منظم من الفكرة، بل تفاعل معها بمنطق الانحياز إلى هذه المؤسسة أو تلك، وليس تأسيسًا على الوعى بمسألة الخلافة وتفاصيلها، فالانحياز كان أساسه الشعبية التى يحظى بها زعماء الحكم أو الأزهر ومشايخه.
لم يتبن بعض المصريين موقفًا منظمًا من دعم أو رفض فكرة الخلط تلك، إلا مع ظهور حسن البنا وتدشينه جماعة الإخوان عام ١٩٢٨. ولد «البنا» بقرية «شمشيرة» مركز فوة عام ١٩٠٦، ونزح والده وهو صغير إلى بلدة المحمودية، حيث افتتح محلًا لتصليح الساعات، ولُقب بـ«الساعاتى»، حفظ «البنا» القرآن الكريم، والتحق بمدرسة المعلمين الأولية، ثم كلية دار العلوم، وعمل معلمًا بإحدى مدارس الإسماعيلية، ومنها انتقل للعمل بمدارس القاهرة.
جمع «البنا» فى هيئته بين ملامح الأفندية والشيوخ. فقد كان مثل الأفندية يرتدى «البذلة» والطربوش فى أغلب الأوقات، لكنه كان يماثل الشيوخ فى إطلاق اللحية واحتراف مهنة الوعظ الدينى وارتداء زيهم فى أحوال. هيئة مرشد الجماعة كانت دالة على الأشخاص الذين يستهدف اصطيادهم. البدلة كانت تختار صغار الأفندية من الطلاب والموظفين المحدثين، أما اللحية فقد كانت تختار البسطاء من العمال والحرفيين وأهل القرى. إنهم الصغار الأقل تعليمًا ووعيًا وقدرة اقتصادية ومنزلة اجتماعية. هم ببساطة «حرافيش المصريين» الذين تحدث عنهم نجيب محفوظ فى روايته «الحرافيش»، وراهن على امتلاكهم قوة ذاتية خطيرة إذا تحركوا ككتلة واحدة.
وثمة مجموعة من السمات المشتركة التى جمعت بين الشتات الذى تحرى «البنا» جمعه وتوحيده، يتحدد أولاها فى «المظلومية»، فالمظالم هى أكثر ما يسود حياة صغار الأفندية والعمال والحرفيين والفلاحين، والشكوى من الواقع أكثر ما يتردد على ألسنتهم. وثانيتها التدين اللسانى، فالعجز عن مواجهة محن الأرض تدفع هؤلاء إلى الاستدعاء المستمر للسماء، ولكن لأن الإحساس بالظلم تمكن من نفوسهم فهم لا يتورعون عن العدوان على غيرهم، متى أتيحت لهم الفرصة، ولأن تدينهم لسانى فهم لا يتوانون فى إسقاط تعاليمه من تفكيرهم وهم يظلمون، السمة الثالثة تتمثل فى الحلم بظهور فتوة عادل يمتاز بالقوة ويتعامل مع الجميع بميزان عدل، وقد ورثوا عن أجدادهم أن خير نموذج على ذلك تحقق- مع الفارق فى التشبيه- فى عصر الخليفة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه.
كانت رسالة «البنا» الداعية إلى إعادة دولة الخلافة ساحرة بالنسبة لأقوام منغمسين فى حياة فوضوية رديئة يستخلصون منها أن القيمة ليست فى العلم ولا فى التقدم الذى يسبح فى بحاره المحتل الغربى، بل فى إطلاق اللحية، وارتداء الجلباب، وإحياء سنة المسواك، ومد الأرجل فى المساجد بالساعات، وتجنيد غيرهم وجذبهم إلى العالم الجديد الذى يصنعه الشيخ المطربش.
لقد امتلك الزعيم سعد زغلول رسالة أشد سحرًا من رسالة البنا، وكان قادرًا على التأثير فى القطاعات الشعبية بخطبه الطنانة الرنانة، لكنه كان يعلم أن الناس تكتفى بالاستماع والطرب ولا يتحركون بعد ذلك، تمامًا مثلما وصف عدلى يكن حاله ذات يوم بقوله: «سعد باشا يقول كلامًا بديعًا، لكنه مع الأسف يخاطب جماعات كأعمدة السكك الحديدية»، كان الزعيم يعلم ذلك ويكتفى بالكلام لأنه رجل سياسة، أما حسن البنا فكان حركيًا قرر النزول إلى الأرض والتفاعل المباشر مع القطاعات الاجتماعية الشعبية؛ لأنه أراد تجييشهم وتكتيلهم، وتحويلهم إلى «نبوت» يفرض به ما يريد على من يريد.
ففى الوقت الذى آثر فيه زعماء ومفكرو الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى العمل فى كنف السلطة والبُعد عن الجماهير، كان حسن البنا غارقًا فى تدجين الجموع ومجيدًا فى اللعب على سيكولوجية الجماهير واستغلال روح القطيع التى تحكمها وتسيطر على سلوكيات الفرد عندما يجد نفسه وسطها. لم تكن السلطة بالطبع بعيدة عن تفكير «البنا»، لكنه فضل أن يمتلك أولًا الورقة التى يستطيع أى شخص أن يلاعب بها السلطة وهو مستريح الأعصاب، إنها ورقة الجماهير.
ابتكر حسن البنا طقوسًا جديدة فى المناسبات المهمة مثل عيد الفطر وعيد الأضحى، فأمر أتباعه بتنظيم مسيرات التكبير والتهليل فى كل حدب وصوب، وقرر أن يجعل الصلاة فى ساحة كبرى مكشوفة خارج العمار، بعد سنين طويلة اعتاد فيها المصريون الصلاة فى مساجد القاهرة العامرة. يصف محمود عبدالحليم مشهد صلاة العيد فى كتاب «الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ» قائلًا: «بعد صلاة الفجر خرجنا متوجهين لصلاة العيد وقد عوّدنا المرشد على أدائها فى مكان فسيح خارج المدينة أشبه بالصحراء، ولم أر فى حياتى صلاة عيد فى مثل هذه الروعة. إن المسلمين على بكرة أبيهم اتجهوا إلى هذا المكان، فكل يسلك الشوارع التى تؤدى به إلى مكان الصلاة، والكل يكبر تكبير العيد منذ يخرج من منزله حتى يصل إلى المكان، فكنت ترى جميع الشوارع تسيل بجموع المسلمين تصيح بالتكبير بصورة لا يملك الإنسان أمامها نفسه، فترى الدموع تنهمر من العيون لروعة المنظر وروعة ما تسمعه».
لقد نجح «البنا» فى مغازلة روح «القطيع» بصورة غير مسبوقة، ولم يعد العقل يعمل، وابتعد عن طرح الأسئلة، وتعود على تلقى الإجابات. أغرقه «المرشد» فى مجموعة من الشعارات والإجابات العامة عن الأسئلة الكبرى التى أرقته كثيرًا. فـ«الإسلام هو الحل» إجابة جاهزة عن سؤال: ما هو الحل؟. وكيف يمكن الوصول إلى هذا الحل؟: بتكوين الفرد المسلم، ثم الأسرة المسلمة، ثم المجتمع المسلم، ثم الدولة. وهل نحن غير مسلمين؟. أنتم مسلمون بالاسم لكنكم لا تفهمون الإسلام. فهم الإخوان الدين هو الفهم الوحيد الصحيح للدين!. أنتم أيضًا ترومون السلطة وتعدون العدة للانقضاض عليها؟. نريدها من أجل الدين.. وتريدون الدنيا؟.
لم يكن أتباع المرشد يتمتعون بالوعى الكافى بتفاصيل التاريخ الإسلامى ليدركوا أن الاستبداد كان أصلًا من أصول حكم بنى أمية وبنى العباس وبنى عثمان، كما كان أصلًا من أصول الحكم داخل العديد من التجارب خارج عالم المسلمين، وأن المسلمين انقسموا إلى عشرات الفرق والجماعات التى ادعى كل منها امتلاك الفهم الحقيقى للإسلام. عدم اهتمام العقل المصرى بالتفاصيل، جعله ينسى حكمته وتجربته مع من كانوا ينادون بالعدل بالأمس، ولما غلبوا غيرهم على أمرهم تحوّلوا إلى «أبالسة» جدد، وأن الانقسام فتنة، وأن الفتنة نائمة ملعون من أيقظها. كل ذلك أدى إلى وقوع «أتباع المرشد» فى شباك عموميات وشعارات حسن البنا، وانتهى به الأمر إلى تعطيل عقله تعطيلًا كاملًا، والمبايعة على السمع والطاعة