لماذا زار «أوباما» مسجد السلطان حسن؟
اتصلت بي «سهير» صديقتي لتخبرني برحلة مع النادي لزيارة مسجد ابن طولون ومسجد السلطان حسن ومسجد الرفاعي، تحمست للذهاب وكانت مدة الرحلة ٤ ساعات ومعنا مرشد متخصص في الحضارة الإسلامية على قدر كبير من الاحترافية، ورغم قرب سكني ومدرستي لمنطقة وسط البلد الجميلة، فقد كانت مع الأسف هذه أولى زياراتي لهذه المعالم الإسلامية العظيمة.
وبمجرد وصولنا لمسجد السلطان حسن بدأ المرشد السياحي الذي معنا يبحر بنا في تاريخ المسجد والمنطقة باعتبارها رمزًا لحقبة زمنية مهمة من تاريخ مصر والعالم العربي والإسلامي بل والعالم أجمع، وهنا بدأت ذاكرتي تستدعي الزيارة التاريخية للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إلى مصر في عام ٢٠٠٩ واستمرت لنحو تسع ساعات، كان نصيب مسجد السلطان حسن منهم 37 دقيقة، وهى مدة أطول من المدة المقرر لها في برنامج الزيارة وغطتها وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وبدأ عقلي يتساءل لماذا اختار «أوباما» هذا المسجد تحديدًا دون غيره ومصر صاحبة الألف مئذنة؟!
وبدأت أبحث في مجلدات مكتبتي ومكتبة والدي رحمه الله وهو الأستاذ المعروف في الفلسفة الإسلامية، وازداد شغفي بالإجابة عن هذا التساؤل لأجد بعد رحلة البحث والنقاش مع العامة والمتخصصين ضالتي، نعم لم يكن اختياره وفريقه لزيارة مسجد السلطان حسن أمرًا جزافيًّا بل كان أمرًا مدروسًا بعناية.
فمسجد السلطان حسن الذي يقع بميدان محمد علي أو ميدان «صلاح الدين» كما هو معروف بمنطقة السيدة عائشة بمصر القديمة، تجاه باب العزب من قلعة صلاح الدين، هو أضخم مساجد مصر عمارة وأعلاها بنيانًا وأكثرها فخامة وأحسنها شكلاً وأجملها لمحاسن العمارة، ويعد المسجد تحفة معمارية إعجازية؛ واكتشفت خلال رحلتي للإجابة عن السؤال السابق أن هذا المسجد قد نال مدحًا ووصفًا من كبار الكتاب والمؤرخين العرب والأجانب؛ حيث وصفه المؤرخ الفرنسي «آدم فرنسوا جومار» في كتاب «وصف مصر» فقال إنه من أجمل مباني القاهرة والإسلام، ويستحق أن يكون في المرتبة الأولى للعمارة العربية بفضل قبته العالية، وارتفاع مئذنته، وعظم اتساعه وفخامة زخارفه وكثرتها، كما وصفه الرحالة المغربي الورتلاني بأنه مسجد لا ثاني له في مصر ولا غيرها من البلاد في فخامة البناء ونباهته.
كما مدحه المستشرق الفرنسي «جاستون فييت» بقوله: «قد يكون هذا الجامع هو الوحيد بين جوامع القاهرة الذي جمع بين قوة البناء وعظمته، ورقة الزخرفة وجمالها»، ووصفه المؤرخ «المقريزي» بأنه لا يُعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحاكى هذا الجامع، واعتبره المهندس البلجيكي «جوزيف إتيان لينوار»: «أجمل جامع في الشرق كله بلا نزاع».
وأما من الناحية التاريخية والمعمارية؛ فقد أنشأ المسجد أحد أهم سلاطين المماليك وهو السلطان الناصر حسن بن قلاوون، على مساحة كبيرة من الأرض تقارب فدانين إذ تبلغ مساحتها 7906 متر مربع، وشرع السلطان حسن في بنائه سنة 1356م واستمر العمل ثلاث سنوات بلا انقطاع حتى افتتاحه، وتكلف إنشاؤه أموالاً طائلة بسبب ضخامة البناء وشموخه واتساع مساحته، وقيل إنها 750 ألف دينار من الذهب، حتى إن السلطان كان يبدو عاجزًا عن إتمام بنائه، وقال لولا أن يُقال إن ملك مصر عجز عن إتمام بناءٍ بَنَاهُ لتركتُ بناء هذا الجامع من كثرة ما صرفت عليه.
ويتفق تخطيط المسجد مع الطراز المملوكي ذو التخطيط المتعامد، وللمسجد مئذنتان تقعان عند الواجهة الشرقية، ويتوسطه صحن مفتوح محاط بأربعة إيوانات، كل منها مغطى بقبو، أعمق هذه الإيوانات الذي يقع في اتجاه القبلة، ويضم المحراب والمنبر، وتوجد في وسط الصحن نافورة تعلوها قبة بنيت على ثمانية أعمدة، ويضم الصحن أربعة أبواب تفتح على أربع مدارس، وتعد كل مدرسة مسجدًا صغيرًا، وكل منها مخصصة لتدريس مذهب من المذاهب الإسلامية الأربعة «الشافعى، والمالكى، والحنبلى، والحنفي».
كل هذا الجمال المعماري بطرازه الإسلامي استطاع أن يخطف أبصار «أوباما» منذ الوهلة الأولى لتتوقف معه عقارب الساعة ليتجاوز المدة المقررة فى برنامج الزيارة. ولكن هل يتوقف تفرد مسجد السلطان حسن وتميزه عند مستوى جمال العمارة ليجذب أوباما والزائرين من مختلف دول العالم له؟
بالقطع لا! فالمسجد كما يخطف الأبصار بمئذنته التي تعلو عنان السماء لتقطع حوالي81 مترًا فوق المسجد كأطول المآذن في مصر، كان وما زال منارة للعلم والفكر، يحتضن مدرسة فقهية متنوعة، تقوم بتدريس الشريعة الإسلامية وفق المذاهب السنية الأربعة "الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية"، ليقدم المسجد للزائرين اتساعًا في مساحته ورحابة في عطائه الفكري وتأثيره الفقهي الممتد، مواجهًا دعوات التشدد والتطرف، محفزًا لمصر وقيادتها في ظل الجمهورية الجديدة في أن تكمل مسيرة تطوير التعليم ليخرُج لنا مواطن منفتح على المذاهب والثقافات، ذو عقلية نقدية، قادر على المساهمة في بناء الحضارة المعاصرة كما فعل أجدادنا من قبل.
ويزداد فخري بما تشهده مصر حاليًّا من اهتمام بالتراث، والإرادة السياسية الواضحة في إحياء وتطوير القاهرة التاريخية بما تحمله من كنوز حضارية كان مسجد السلطان حسن أحد معالمها، وكما عاهدنا على الجمهورية الجديدة الاتجاه للحفاظ على التاريخ وصناعة المستقبل لترد بقوة على المشككين في أن العاصمة الإدارية الجديدة ستجعل القاهرة التاريخية منسية ومهملة، ولعل خير دليل على الاهتمام الرئاسي بتراث القاهرة التاريخية هو قرار فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي في عام 2016 رقم 604 بتشكيل واختصاصات اللجنة القومية لتطوير وحماية القاهرة التراثية برئاسة مساعد رئيس الجمهورية للمشروعات القومية والاستراتيجية. وهو القرار الذي اختص اللجنة باتخاذ ما يلزم من سياسات وإجراءات لتطوير القاهرة كعاصمة تراثية بمعايير اقتصادية وسياحية لجذب الاستثمارات وإعادة القيمة لهذه المنطقة التراثية في قوائم التراث العالمي المعماري بمنظمة اليونسكو. وبالفعل فقد تم إدراج مسجد السلطان حسن وما يحيط به من مناطق ضمن مخطط التطوير.
والواقع أن مشروعات تطوير القاهرة التاريخية ستحول القاهرة إلى «متحف مفتوح» للمصريين والعالم أجمع، شاهد على كافة الحقب التاريخية التي مرت بها مصر، والحق أنه إذا كان لمصر الفرعونية أن تفخر بأهرامها فإن لمصر الإسلامية أن تتيه عجبًا بمسجد السلطان حسن الذي لا يعادله بناء آخر في الشرق بأجمعه، فقد جمع شتى الفنون فيه، ولذا تزداد سعادتي كما رأيت عملة الـ 100 جنيه المصرية لأجد مسجد السلطان حسن يزين وجهها ويزين أبو الهول ظهرها، لتظل مصر دائمّا منبع وملتقى الحضارات، «فمِصْرُ الحَضارةُ والمَنارةُ مِن قِدمْ، وحِضْنُ المساجدِ والكنائسِ والهَرَمْ».