رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بحر المعرفة».. «الدستور» تحيى الذكرى التسعين لميلاد المفكر الكبير السيد ياسين

المفكر الكبير السيد
المفكر الكبير السيد ياسين

تحل الذكرى الـ٩٠ لمولد العبقرى المصرى الكاتب والمفكر الراحل السيد ياسين، غدا، الذى أثرى بإبداعاته الفكر الثقافى والاجتماعى والإنسانى، واستفاد من عطاءاته وفيضه الآلاف من تلامذته وقرائه ومحبيه. 

وتستحق رحلة السيد ياسين، المليئة بالزخم والمعارف المتنوعة، التوقف عندها كثيرًا بالتحليل، لاستلهام تجربته الرائدة بداية من التثقيف الذاتى ثم الإبحار فى العلوم الإنسانية ثم الغوص فى بحار الكتابة والتأليف ليترك للمكتبة العربية أرفع المؤلفات والكتب فى شتى المجالات، وهى التجربة التى تستعرض «الدستور» ملامح منها فى السطور التالية.

ولد السيد ياسين فى مثل هذا اليوم من عام ١٩٣١م، بالإسكندرية، ومع امتداد نشأته خاض رحلة التثقيف الذاتى من عالم الأدب، حيث انهمك فى قراءة الشعر ومؤلفات الشاعر الغربى «تى إس إليوت». 

ورغم الانشغالات والمسئوليات الكبرى التى تحملها منذ صغره وطوال مسيرته الحافلة، ظل الأدب حيًا فى كيانه، وأثر ذلك كثيرًا على جودة إنتاجاته العلمية ولغته المميزة، المحصنة بطبيعة الحال بمنهجه العلمى الحداثى الذى شكل طابعًا لمؤلفاته طوال العقود التالية لسنوات الصبا الأولى.

وأبحر «ياسين» منذ صغره أيضًا فى بحار علم النفس، لتتحول سنوات صباه إلى وعاء معرفى كبير، ليتحول منزله إلى ما يشبه الصالون الثقافى يجتمع فيه مع أقرانه للنقاش فى المسائل الأدبية والمعرفية، وبالتوازى التحق بكلية الحقوق فى جامعة الإسكندرية، التى حصل منها على درجة الليسانس عام ١٩٥٧م.

وبعد تخرج السيد ياسين عام ١٩٥٧ كان عقله قد نضج بما يكفى لينتقل بين المدارس الفكرية المتعددة، ويكون شاهدًا على فكر الجماعات الدينية التى كانت تسيطر على المجتمع فى تلك الفترة، وتلقف أول فرصة مهنية جادة عندما طالع إعلان المعهد القومى للبحوث الجنائية، الذى يطلب فيه باحثين مساعدين من خريجى الحقوق، وكان هو أحد ثلاثة تم قبولهم من بين ٣٠٠ متقدم لشغل الوظيفة.

سافر السيد ياسين إلى فرنسا لدراسة القانون، وهناك بدأت بوصلته فى التحول إلى علم الاجتماع الأدبى والسياسى، حيث قرر أن يصبح أحد أوائل العرب الذين ينخرطون فى دراسته، وبعد العودة إلى القاهرة فى النصف الثانى من الستينيات، قرر التحول لعلم الاجتماع والدراسات الاستراتيجية، وبعد ٥ يونيو ١٩٦٧ وجه جهده لدراسة المجتمع الإسرائيلى، متبعًا نظرية «اعرف عدوك».

وانضم إلى مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بالأهرام، الذى قرر الأستاذ الكبير الراحل محمد حسنين هيكل تحويله فيما بعد إلى مركز للدراسات السياسية والاستراتيجية، الذى أصبح بعدها أحد أكبر مراكز الأبحاث والشئون الاستراتيجية فى الشرق الأوسط.

وقدم السيد ياسين نحو ٥٠ مؤلفًا فى السياسة وعلم الاجتماع، تشكل كنزًا حقيقيًا لكل باحثى علم الاجتماع والسياسة فى مصر والوطن العربى، وظل محتفظًا بمنهجه العلمى المتطور ومتابعته الدقيقة، حتى بعد أن تجاوز الـ٨٠ من عمره، وكل من عرف الرجل الكبير فى حياته، يدرك أن عقيدته المعرفية جعلته يبذل جهدًا هائلًا ليتحقق بقدراته ومصادره المتنوعة ورؤيته الواسعة، من الجديد والمغاير فى كل إنتاجاته البحثية. ونجده فى أحد أحدث كتبه «الزمان الثورى ٢٥ يناير-٣٠ يونيو- تحليل للموجات المتدفقة»، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يقدم حالة شديدة القرب من قلب الأحداث الساخنة التى شهدتها مصر فى تلك الأيام، من خلال سلسلة مترابطة من المقالات التى نشرت فى جريدة الأهرام بين ١٦ مايو ٢٠١٣ حتى ٢٤ أكتوبر٢٠١٣، وفى جريدة الحياة اللندنية بين ٢ يناير حتى ٢٠ أكتوبر ٢٠١٣، فى تلك الفترة الملتهبة من حياة مصر، التى شهد البلد خلالها قيام ثورة ٣٠ يونيو، والتخلص من حكم جماعة الإخوان الإرهابية. وحلل ياسين فى الكتاب أحداث الثورة المتسارعة بضمير وطنى ورؤية بصيرة، كما تطرق لأصداء الثورة، ومواقف النخب منها. وكان إنتاجه يخرج كالفيضان المتدفق، ومن أبرز كتبه «أسس البحث الاجتماعى ١٩٦٣، ودراسات فى السلوك الإجرامى ١٩٩٥، والشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر ١٩٧٣، ومصر بين الأزمة والنهضة ١٩٩٠، وتحليل مفهوم الفكر القومى ١٩٧٨، والسياسة الجنائية المعاصرة، ودراسة نقدية للدفاع الاجتماعى ١٩٧٣، وحوار الحضارات فى عالم متغير١٩٩٥، وغيرها».

وكان السيد ياسين يدرك أن موهبته الكبيرة أمانة، لذلك لم يبخل بعلمه على أحد، وكان يتذكر دائمًا عند عودته إلى القاهرة عام ١٩٦٧ الدور المهم الذى لعبه محمد حسنين هيكل فى حياته.

ويحكى عن ذلك بقوله: «كان تأثير محمد حسنين هيكل على تكوينى فى هذه المرحلة عميقًا، فقد كان هيكل هو الذى فتح أمامنا آفاق البحوث الاستراتيجية، حين قرر تحويل معهد الدراسات الفلسطينية إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ودفعنى هذا التحول إلى التعمق فى دراسة مناهج ونظريات البحوث الاستراتيجية».

ولم يترك قضية يرى ضرورة للاشتباك معها إلا وفعل بطريقته الاستثنائية، وعلى سبيل المثال فى كتابه «الإمبراطورية الكونية: الصراع ضد الهيمنة الأمريكية»، يقدم رؤية ربما لا تستطيع أن تجدها لدى أعتى مفكرى الغرب، عن سلوك الإمبراطورية الأمريكية وأساليب الهيمنة الأحادية.

وعلى الصعيد العملى، تولى رئاسة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام لنحو ٢٠ عامًا فى فترة ذهبية من تاريخ المركز بين منتصف السبعينيات حتى منتصف التسعينيات، وتوج بالعديد من الجوائز تحية لمشواره الاستثنائى، من أبرزها وسام الاستحقاق الأردنى من الطبقة الأولى، عام ١٩٩٢، ووسام العلوم والفنون والآداب، عام ١٩٩٥، وجائزة أفضل كتاب فى مجال الفكر عن كتاب «الوعى التاريخى والثورة الكويتية» من معرض القاهرة الدولى للكتاب ١٩٩٥، وجائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة، عام ١٩٩٦، إضافة لجائزة سلطان العويس.

وما لا يعرفه الكثيرون أن السكندرى الكبير هو عم والد الفنان آسر ياسين، ويعتز النجم الشاب بجده الأكبر كثيرًا، وكان دائم التردد عليه فى مكتبه بمؤسسة الأهرام بالجلاء.