ناصر عبد الرحمن في ندوة «الدستور»: تلغرافات الصعيد علمتني كتابة الحكايات
- لا ألتفت للمنتقدين وأنصح مهاجمي «دكان شحاتة» بقراءة «شخصية مصر»
- واقعة «راديو عبد الوهاب» منطقية فالبطاريات كانت تكنولوجيا جديدة حينها
- «جبل الحلال» خرج للنور بفضل محمود عبدالعزيز.. وعزمني على العشاء هدية
- يوسف شاهين علمني كتابة الحوار الدرامي.. وقال لي: «مش هاضيع مجهودك»
- ابنتي فرحت بظهوري كممثل.. وأحلم بتحويل رواية «الأرض» إلى مسلسل
- الناس فهمت «شفيقة» غلط.. وأرفض قتل «متولي» لها
- لم أستطع مشاهدة «سكواد جيم» لأنه مليئ بالدم.. وابني قال لي: «أنت خواف»
- أدين بالفضل للكتاب محسن زايد وأسامة أنور عكاشة ووحيد حامد
نجح السينارست الكبير ناصر عبد الرحمن في صناعة أفلام ومسلسلات تعتبر علامات مضيئة في تاريخ الفن المصري، مثل مسلسل "جبل الحلال"، وأفلام "هي فوضى وحين ميسرة ودكان شحاتة وكف القمر"، تعاون خلالها مع أشهر الفنانين والمخرجين، على رأسهم يوسف شاهين ومحمود عبد العزيز.
"الدستور" استضافت السينارست المتميز في ندوة بمقرها، حضرها الدكتور محمد الباز، رئيس مجلسيّ إدارة وتحرير الجريدة، والكاتب الصحفي وائل لطفي، رئيس التحرير ، وكشف خلالها الضيف عن تفاصيل كثيرة تخص رحلته الفنية.
وقال "عبد الرحمن" خلال الندوة، إنه يتمنى تحويل رواية الأرض للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي، إلى مسلسل، يختلف عن الفيلم، لأنه سيحذف شخصية "أبو سويلم"، وسيجعل الشخصيات الفرعية أبطالًا.
بداية.. كيف كوّنت وجهة نظرك عن الصعيد لتكتب مسلسل "موسى" رغم أنك قاهري؟
ولدت بمنطقة روض الفرج بالقاهرة، وكانت تشبه الصعيد إلى حد كبير، لأن كل النازحين من الجنوب كانوا يأتون إلى منطقتنا، منذ نقل سوق رمسيس إلى روض الفرج عام 1948، وكانت هذه السوق عالمًا خاصًا، ومن أشهر رجاله الوفدي كرم زيدان، وما لا يعلمه كثيرون أن المخرج الكبير صلاح أبو سيف استوحى فيلم "الفتوة" من هذه السوق.
وإلى جانب ذلك، ولد أبي في درب البيدق، في منطقة العتبة، بجوار شارع الجيش، وكان أعمامي ينتقلون دائمًا بين القاهرة وسوهاج، وكان هناك اتصال دائم بيننا وبين أعمامي هناك، عن طريق التلغراف.
ومن حسن حظي، كنت أنا المسئول عن الذهاب لعامل التلغراف لإرسال خطابات، في أي ظروف تستوجب ذلك مثل الأفراح أو المآتم، أو لاستلامهالمعرفة أخبار الأهل، وبعد استلام الخطابات كنت أقرأها لوالديّ، وبذلك أتابع أخبار الصعيد أولًا بأول.
حينها كنت تلميذًا بالصف السادس الابتدائي، وكنت أكتب الخطابات لجدي وجدتي، وهذا جعلني أتعرف على كل مفردات الصعيد، وتعلمت كيف أحكي الحواديت.
وكان بيتنا يضم مندرة، نطلق عليها "غرفة المسافرين"، وكان لها باب منفصل عن البيت، وهناك كنت أقرأ وأكتب الخطابات.
وأود أن أشير إلى أن التليفونات والتلفزيونات لم تكن موجودة إلا في بيوت الأغنياء آنذاك، وكانت الخطابات هي الوسيلة الأشهر للتواصل.
حينما كنت أستلم خطابًا وأذهب إلى البيت، كنت أجلس، ويجلس حولي الأهل ليستمعوا للمكتوب، كنت أقرأ والعيون تنظر لي.. تبدأ الخطابات عادة بسلامات معروفة إلى فلان وفلان، ثم بكتابة ملحوظة، وبعد ذلك التفاصيل التي كانت تأتي في 3 أو 4 صفحات.
كنت أقرأ وأشرح كل شيء، هكذا بدأت حياتي، وهذا ما جعلني أصل إلى ما أنا فيه.. فأنا أعتبر كتابة الخطابات هي المحاولات الأولى للكتابة.
ما تفاصيل تجسيدك لشخصية بائع الخواتم؟
ظهوري في مسلسل "موسى" جاء عن طريق الصدفة، إذ فاجأني المخرج محمد سلامة والفنان محمد رمضان بأنني سأجسد شخصية العم حسين، البائع، وأقنعاني بالأمر.
البائع كان يعطي خاتمًا للبطل، ووفقني الله لأقول جملة ليست مكتوبة في السيناريو، وهي: "كل أما تنجح عاوزك تفتكرني وتبتسم".
فرح أهلي بظهوري خلال المسلسل، خاصة ابنتي، وأريد أن أشير إلى أن هذه الجملة مأخوذة عن شيخي، الذي كان يعتبر الابتسامة أغلى من أي شيء.
ولم ألتفت لمن انتقدوا ظهوري أو رأوا المشهد غير مبرر، وقد تعرضت لانتقاد مشابه في فيلم "دكان شحاتة"، فكان هناك من يعترضون على عدم تفكير البطل "شحاتة" في الانتقام من أخوته عقب خروجه من السجن، وأنصحهم بقراءة كتاب "شخصية مصر" للكاتب الكبير جمال حمدان، ليعرفوا أن هذه التصرفات طبيعية جدًا.
هل تعمدت إطلاق اسم شفيقة على شقيقة "موسى"؟
نعم.. تعمدت أن أطلق اسم شفيقة على شقيقة "موسى" في المسلسل، لكي أقول إن شخصية "شفيقة" تختلف عن الصورة التي يعرفها الناس.
شفيقة شخصية حقيقية، عاشت في ثلاثينات القرن الماضي، وحينما غناها الريس حفني أحمد حسن، غير تفاصيل كثيرة، وهذا لأن الناس تختار التفاصيل التي تعجبها، ومن جانبي لا أوافق على قتل متولي لأخته، وأرى أن هناك زيادات في الشخصية لا علاقة لها بالواقع.
في الصعيد العرف أقوى من الحقيقة، لدرجة أن هناك من يمكن أن يخالفوا القرآن إن اصطدم بالعرف.
تعاملت بمنطقي الشخصي حينما كتبت شخصية "موسى"، ولم يحدث في تاريخ الدراما المصرية أن
إن من الممكن ان يخالفون القرآن لو تصادم بالعرف، فتعاملت بمنطقي أنا تماما في شخصية "موسى"، ولم يكتب أي سينارست شخصية درامية في تاريخ الدراما تصعد عن طريق الراديوهات.
هناك ناقد شهير جدًا سألني: "كيف كان محمد عبد الوهاب لا يملك راديو وأحضره له موسى؟"، فقلت له إن الراديو الذي أحضره موسى من فلسطين كان يعمل بالبطاريات، وكان هذا جديدًا في هذا الوقت.
لماذا جعلت الباشا يرفض موت أمه ويخلدها؟
قصة الباشا حقيقية وحدثت في الإسكندرية، وبطلها الحقيقي شاب كانت سنه 20 عامًا، وكان يعيش مع شقيقته وأمه، وحينما ماتت الوالدة لم يستطيعا نشر الخبر، لأن ذلك سيجعل صاحب الشقة يأخذ منهما المسكن، لذا وضعا الجثة في الدولاب وأقنعا نفسيهما بأن الروح ستعود للجسد.
حدثت تلك الواقعة منذ عامين، ووظفتها في المسلسل، وجعلت الاحتفاظ بالجثة يشبه احتفاظ المصريين القدماء بأجساد الموتى.
هل يشبه الصعيد الذي حكيت عنه الواقع؟
بالتأكيد لا، فالصعيد حاليًا لا يشبه الصعيد في الماضي، فقد حدث تطور كبير هناك، لكنني أؤكد أن كل عمل فني هو ابن زمنه.
وفي الزمن الذي تدور فيه قصة "موسى" لم تكن قرى الصعيد في مصر تختلف عن أي قرية في فرنسا أو الصين أو أي دولة أخرى.
أما إن تطرقت لكتابة عمل معاصر، فهناك آليات لا بد من أن أستخدمها، ففي العالم الجديد هناك موبايل ووسائل تواصل حديثة.
وأحب أن أشير إلى أنني لا أستطيع مشاهدة بعض الأعمال المعاصرة، فحينما كان ابني يشاهد مسلسلًا كوريًا يسمي "سكويد جيم"، لم أستطعالنظر للشاشة، لأنه مليئ بالدم.. ضحك الولد، وقال لي: "أنت خايف يا بابا"
المسلسلات الحديثة بطلها إما سجين يحاول الهرب، أو قاتل، أما أنا فأحب أن يكون بطلي بكالوريوس تجارة مثلًا، وفي "حين ميسرة" كان البطل صنايعي ميكانيكي، وفي "دكان شحاتة" كان البطل "فكهاني"، وفي كف القمر كان عام بناء، وفي جنية الأسماك كان طبيبًا.
كيف كان شعورك حينما رأيت مشهد الفيضان؟
كنت أتخيل دائمًا مشهد الفيضان الذي حكى عنه الأجداد في الصعيد، وأحببت عن أحكي عنه، لأنني لم أجد عملًا دراميًا ناقش هذه القصة في أي مسلسل أو فيلم.
فوجئت بأن شركة الإنتاج وافقت على تنفيذ المشهد، وشعرت بسعادة كبيرة حينما رأيته.
كتبت مشاهد الفيضان في 8 صفحات، ونقلت كل شيء عن حكايات الأجداد عن الفيضان الذي حدث في عام 1942.. حاولت تخليد الحدث قبل أن يندثر.
كما حرصت على تصحيح مفاهيم أخرى مغلوطة خلال السيناريو، فالجميع مثلًا كتب عن العداء بين الإنجليز والألمان، لكنهم لم يتطرقوا إلى طريقة التعامل مع الإيطاليين، فالمصريون كانوا يساعدون الطلاينة واليونانيين على الهرب.
وحرصت على التحدث عن كاريكور، الذي علم المصريين هندسة الصوت، وجعلت له مشهدًا منفصلًا، منح خلاله البطل الراديو، إحياءً لذكراه.
كيف استفدت من يوسف شاهين ويسري نصر الله وخالد يوسف؟
عملني يسري نصر الله كيفية تنفيذ الفيلم، وذلك خلال صناعة فيلم "المدينة"، الذي كان مشروع تخرجي، وأنتجته شركة مصر العالمية، وحينها كنت سأبدأ فترة تجنيدي.
وتعلمت من خالد يوسف كيفية التعامل مع الإعلام، فلم أكن أجيد التحدث مع وسائل الإعلام.
وتعلمت من يوسف شاهين كيفية التعامل مع الصوت، أي استخدام الموسيقى خلال الفيلم، كما تعلمت منه كتابة الحوار الدرامي.. وهذا هو أقرب شخص لي وأدين له بالفضل في أمور كثيرة.
ذهبت إلى يوسف شاهين في مكتبه، وطلب لي قهوة، وكان شخصًا خفيف الظل، وحكيت له عن قصة الفيلم، فطلب مني الصعود لـ"عم جابر" كي أوقع على عقد الفيلم، فوجئت لأن الأمر لم يكن سوى فكرة في هذا الوقت، وقال لي: "سأستلم منك فكرة الفيلم في 5 ورقات خلال الأسبوع المقبل".
حينها أحسست بأنني في ورطة، كتبت الفكرة وذهبت إليه في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحًا، قبل أن يسافر إلى الإسكندرية، وقابلني بالبيجامة، وقال لي عقب عودته من الإسكندرية: "لا تقلق.. لن أضيع مجهودك، صحيح أنني أضع اسمي على كل سيناريو منذ 40 عاما، لكن هذه المرة لن أضع اسمي إلى جوار اسمك".
كيف تعلمت كتابة السيناريو؟
أدين بالفضل لثلاثة من كتاب السيناريو في مصر، الأول هو محسن زايد،لأنه علمني كيف أكتب السيناريو، والثاني هو السيناريست الكبير أسامة أنور عكاشة، الذي كلمني كيفية كتابة الحوار، والثالث هو وحيد حامد، الذي لم يستطع أي سينارست الوصول لنجوميته.
وأرى أن وحيد حامد زاد من احترام المهنة، وهو بالنسبة لي رمز يصعب أن يتكرر، كما تأثرت بيوسف جوهر ورؤوف توفيق وعبد الحي أديب.
هل من الممكن أن تكتب سيناريو عن رواية؟
أرى أن السينارست الحقيقي هو من يستطيع كتابة سيناريو عن رواية، وليس مجرد أحداث تدور في خياله.
وأود أن أشير إلى أنني حاولت أن أفعل ذلك مع رواية "عصافير النيل" للكاتب الكبير إبراهيم أصلان، بالتعاون مع المخرج مجدي أحمد علي، لكن لم يكتمل المشروع.
أنا أحب "أصلان" وقرأت له قبل أن أعرفه، وانبهرت بكيفية كتابته، فهو يكتب بصبر ودقة وإحساس وبطريقة فريدة، وحينما التقيته قلت له: "لكي أكتب سيناريو عصافير النيل.. يجب أن أخرج عصافير النيل فعلًا".
كان "أصلان" حزينًا بسبب فيلم "الكيت كات"، لأنه كان يرى أن داوود عبد السيد أهمل في رواية "مالك الحزين"، وكنت أرى أن "داوود" كان مضطرًا لذلك كي يصنع فيلمًا، واستطاع الحفاظ على روح العمل.
وأقول بصراحة أنني أتشرف بتحويل رواية إلى فيلم، وأرى أن السينارست الذي لم يفعل ذلك ينقصه شيء كبير.
ما المعايير التي ستراعيها إن كتبت سيناريو عن رواية؟
لا أصنع خطة قبل كتابة أش شيء، لا أحب التحضر، فهذا عمل مهندسين وأنا لست مهندسًا.
ببساطة، مازلت أحلم بتحويل رواية "الأرض" للكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي، إلى مسلسل، ولن يشبه فيلم "الأرض".
أعلم أن 90% من الرواية موجود في الفيلم، لكنني لن أجعل محمد أبو سويلم شخصية رئيسية، ولا ابنته، ولا "عبد الهادي"، بل سيكون أبطالي هم:محمد افندي وعلي الشريف وخضرة، المتعلم والفلاح و"البنت اللي فيها كل العبر"، وسأحذف شخصية "أبو سويلم"، لأنني لن أستطيع الاقتراب من العظمة التي جرى تقديم الشخصية بها في السابق.
ما رأيك في ورش كتابة السيناريو؟
أنا ضد هذه الورش، وضد أي مشروع يكتبه أكثر من سيناريست واحد..مثلًا في فيلم "السادات" كان احمد زكي هو قائد عملية الكتابة، وكان يأخذ السيناريو من أحد الكتاب ويطلب من آخر تعديله.. وأنا لا أقبل أن يعدل أحد على كتابتي.
هل ستصنع جزءًا ثانيًا من مسلسل "جبل الحلال"؟
بداية.. أود أن أشير إلى أن قصة هذه المسلسل عجيبة، ولم يكن من المقرر إطلاق هذا الاسم عليه، كان الاسم المبدئي "أبو هيبة"، وأحب أن أؤكد أنه لولا محمود عبد العزيز ما كان هذا العمل يخرج للنور.
في البداية، كنت أريد كتابة القصة كفيلم، لأنني أحب السينما، وهي تحبني، وحينما تعرفت على محمود عبد العزيز كنت في فترة التجنيد، وكان هو يسكن في منزل بميدان لبنان، وحينما قرأ المعالجة أعجبته وعزمني على العشاء.
وفي عام 2012، قال لي إنه يريد أن يصنع مسلسلًا يتحدث عن الصعيد، فتهربت منه، لكنه أصر على الأمر، ورأى أن أحول فيلم "أبو هيبة" إلى مسلسل"، فحاولت أن أفعل ذلك على مدار أسبوعين، وكتبت ملخصًا في ورقتين، وقرأهما، في بيته بالشيخ زايد، وأعجب بالفكرة وتواصل مع شركة الإنتاج، وحصلت على أكبر مبلغ حصلت عليه في حياتي، وأشهد أنه لم يتدخل في السيناريو تمامًا.
وقال لي بعدها إن ظروفه الصحية تمنعه من تقديم جزء ثان من المسلسل، كان مرهقًا جدًا، رحمه الله.