أين قدرى؟!
ورأيتنى فى حلم تكرر كثيرًا فى حياتى، أتقلب على فراش وثير، عرقى يبلل ملابسى، ومئذنة قريبة تأتى بآيات الذكر الحكيم: «وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًا إِنّا لَنَرَاهَا فِى..» وعاد يرتل: «إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يا أَيُهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاى إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ».
وشيش المذياع يرمى بصور غرائبية لكائنات مجهولة، ظلال لبشر، أشباح مخيفة تتراءى لى فى جلابيب وعمائم وبلاطى وأجساد غليظة تتعارك داخل زراعات مع ارتجافات قوية لعيدان بوص وهيش نافر يتراقص ويستطيل منتصبًا للسماء. بركة من الدماء، أسمع أصوات استغاثة، طلل عيون زرقاء تبرق فى ذعر واستغاثة دون جدوى.
- لا تقتلنى، لم أخن يا عابد، هى التى راودتنى عن نفسى.
- كنت على العهد، أوصيك بولدى يا تعلب؟!
فراشى يتوسط «هول» كبير، صار يتسع حتى زاد الظلام وطال الليل فى رقدتى وأنا أنظر نفسى وملامحى، هيئتى، فى حائط بعيد معتم لاحت فيه المرايا عديدة وسطعت واجهاتها من خلال ثقب صغير ترمى به هوة برزت من السقف العالى، الصالة تتمدد فتمتد حتى صرت ضئيلًا منكمشًا فى فراشى الخفيف إلا من جلبة تخترق سمعى، وشيش وصوت قطارات وطريق طويل باتجاهين، ورجل فى منتصف العقد السادس يقبض على معصمى، يطوى كفى داخل كفه العريض الضخم فتلتف أصابعه الطويلة المخشوشنة بغلظة، بحنو، حول ذراعى، كنا نمشى سويًا فى الظلام وقد طالت الصالة وبدد فراشى، حكى عن سيرته وأنا أنصت لنداءات خفية تتردد فى فضاءات الطريق.
- عد يا حبشى..
تراجع يا صومالى والتفت لولدك..
لا تمتعض،
إنه قدرك.
قدرى؟!
صرخت وقد قبض بذراعيه على عنقى، أمرنى بملازمته حتى نهاية الطريق المعتم، انقطع صوت التلاوة إلا من وشيش وهدر لقضبان سكك حديدية، لاح قطار غارب لبلاد بعيدة، القطار يفر بلا توقف، الرجل يقبض على كفى يقول على مسمعى من حين لآخر..
يسترسل فى حديث طويل، عن عشقه للسينما، بطلاتها الجميلات فى الخيال والواقع، مخرجيها، مؤلفيها، تلك القصص التى لا تنتهى.
ختم حديثه بدهشة، فى ولع، عن أجمل فيلم رآه فى شبابه:
- «جسور مقاطعة ماديسون».
توقف الحديث، تلاشت الأصوات، ظهر ظل الرجل، جرنى من مرقدى، ربت على كتفى، أخرجنى من الظلام، فى خطوة، اقترب من جسدى، ردد:
- لا تخف، أكمل دورك.
مشيت بجانبه، كانت الطرقات تتسع، صار يمشى فى عجالة، سمعت أصوات خوار جاموس، فى هياج، ركضت سبع بقرات سمان، ظهرت أولهن وهى تتقيأ سائلًا أبيض يشبه الدقيق، ولج بى فى الظلمة، فتح بابًا حديديًا، صعدنا سويًا لخشبة مسرح كبير، تلصصت، نظرت لجلبابه الصوف والبالطو الجوخ الأسود، لحذائه اللامع، دنا ينحنى فى وضع السجود، أخرج من جوربه سكينًا حادًا، قطع به شيئًا ما لزجًا ملفوفًا فى سوليفان رقيق، انتشل علبة سجائر «دانهيل» من جيب الصديرى، أشعل واحدة، خطا بثقة للاستيدج، توسط خشبة المسرح، لاحت أمامنا مئات المقاعد خالية، نظرتها فى التو، رفل فى ملابسه الثمينة الزاهية لأشتم رائحة ملابسه، عرقه، تبغه، الظلام يزيد، بقعة ضوء وحيدة آتية من ثقب عالٍ مفتوح على هوة تتدلى منها لمبة تسطع بالضوء فجأة، الضوء يفترش منتصف خشبة المسرح، ظهرت يدى معلقة فى ذراعه بأصابع ترتجف، كفّ عن الحديث، نظرت للطريق الذى استطال نافذًا لجسر طويل، الجسر ممتد بلا نهاية، على يمين الجسر ظهر شق، بات يتسع، صار بحرًا متلاطم الأمواج، عصفت مياهه الصاخبة، تعالى صوت الارتطام، مشيت فى ظل الرجل، بلا خوف، دون اكتراث، انصعت لتوجيهاته القليلة، فى الطريق، أشار بإصبعه السبابة إلى نهاية طريق غير واضح، يمين الطريق، ظهرت أشجار السرو والعبل، اعتلينا الجسر، عاد صوت وشيش المذياع، صار قريبًا، سمعته ينادى، بيده ميكروفون ضخم، قال بصوت جهورى واثق:
- أنا المخرج، تجاهل سيرة أبيك، التفت لدورك فى الفيلم، إنها فرصتك الوحيدة.
خبأنى برأسى داخل البالطو الأسود، انسقت للحجب، تتبعت النداءات الخفية، خطوت نحو بقع الضوء التى هبطت فجاة من السماء وكأننى فى بلاتوه كبير مفتوح على مدينة صاخبة، ما بين جلبة الميناء وهدر الموج، كانت الإضاءة قد سلطت على قفاى، وجهى، صدغى، برقت عيناى، رأيت الرجل فى نور مبهر، ضوت عيناه الزرقاوان، خرسا، نظر إلىّ فى دهشة، كأننى أصم، صار يرقب حيطانًا عالية تتعاظم، تحجب الرؤية.
سرت وحدى أتتبع الضوء المبهر، تركته فى فزع، ظهر فى المشهد ضخامة البقر، تجلى صوت الخوار، جريت، تركنى أبى، صرخت:
- أين أبى؟! أين أنا؟ مَن أنا وأين الطريق؟
الطريق يطول، صوت المخرج يكرر:
- ثوانٍ وسنبدأ التصوير.
تجاهل سيرة أبيك، رائحة حليب تشعرنى ببهجة ما مع هذا الأريج النافذ من ملابس الرجل والذى رأيته يفر، ترك معصمى ورسغى خائفًا مذعورًا، لاحقته جرذان عفية ظهرت فجأة على خشبة المسرح، فوق الجسر الممتد بلا نهاية أطل لميناء بحرى، انتحيت يمينًا، قلبت فى أوراق رمى بها مساعد المخرج الذى حذرنى:
- فرصة عمرك، اقرأ دورك جيدًا، تجاهل سيرة الأب!!
سمعت من ينادى، مرة أخيرة يتبعها صدى الصوت، شعرت بذعر:
- مالك والطريق يا حبشى.
صرخت:
- أبى.
برقت عيناه، زاغ فى ظلام الجسر، تتبعنى المخرج، بيدى سيناريو الفيلم، أحاول تذكر دورى الوحيد..
فور
ثرى
تو
وان
أكشاااااااااااان
صرت وحدى فى الطريق، اختفت الجرذان، سطعت بقعة الضوء الوحيدة، اتسعت، افترشت أرضية الطريق، المساعد فى الخلف يردد:
- قل يا حسين يا صومالى.
تأملت ملابسى، بنطلونى الكاو بوى، تى شيرتى السماوى، عيناى تنظر الآفاق، فى وهن، طاردت النعاس، دعكت عينى، نظرت لمرة أخيرة، حاولت فهم ما يدور حولى.
كانت المرآة بطول جسدى، برقت عيناى الزرقاوان، فى بقعة سوداء، ظهرت حواف المرآة المقعرة.
المخرج يصرخ:
- دخان.. ماكينات الدخان يا نجم مع مراوح الهواء من الخلف ليظهر ارتجاف جسده، ملابسه..
«سائرًا وحده فى الظلام».
- قل يا حسين.
أرى أبى فى ظلام، رأيت ملامحى فى صفحة مرآة قريبة، معلقة بطول جدار أحمر، خطوت، تخلصت من أوراق السيناريو المكتوب، أتانى صوت المساعد فى مرة أخيرة:
- انس سيرة الأب!
الضباب من أمامى، فوق الجسر الطويل المسفلت، صوت عربات نقل ترتطم بصخور قريبة من شاطئ طويل.
رددت مكررًا:
- أنا الممثل الوحيد المؤهل للدور، أنا المؤلف، أنا صاحب النص، أنا كاتب القصة، أنا الحكاية، بل الحكاية كلها، بل أنا المخرج.
ارتجفت قدماى وبكيت بلا دمع، أخطو بثقل قدمى اليمنى التى تعثرت وأنا أبتعد عن ضوء الاسبوتات البيضاء الساطعة والكاميرا ترصد ملامحى، المخرج يعبر من بين الدخان وضبابية البلاتوه.
سمعت تصفيقًا حادًا من شريط الصوت القريب، مسحت دمعة وحيدة فرت على وجنتى، ناديت أبى دون جدوى، وصرخ المخرج:
- الله، دور عمرك، فيلمك الوحيد.
أشم رائحة الرجل، تأتينى أطياف سارحة، هالات من الغمام، تائهًا أسأل نفسى، أجتر ما حدث، أردد فى نفسى همسًا:
- مَن هم هؤلاء؟، مَن هذا الرجل الحبشى؟!
أين قدرى؟.
غريب الأطوار، يشبهنى كثيرًا هذا الرجل.
فى الصحو والحلم.