المصلحة.. والضمير الدينى النائم
للمصرى طريقته الخاصة فى تكييف الدين مع تحولات الحياة، وهو شديد الغرام بتطبيق مبدأ «حيثما تكون المصلحة فثَم شرع الله» بطريقته الخاصة. نستطيع أن نستجلى هذا الوجه من أوجه تفاعل المصريين مع الحياة عبر تتبع واحد من أبرز التحولات التى شهدها عصر محمد على، حين أصبح عالم الوظيفة من العوالم المتاحة للمصرى الذى تخرج فى المدارس التى أنشأها الوالى.
اهتم محمد على، أشد الاهتمام، بإنشاء الدواوين «الوزارات بالمصطلح الحديث» لإحكام سيطرة الدولة على مقدراتها، وإيجاد أدوات قادرة على إدارتها بشكل يؤدى إلى تطويرها وتنميتها، وقد أدى ذلك إلى زيادة أهمية الوظائف الحكومية وارتفاع شأن أصحابها، كما يذكر «رزق نورى» فى كتابه: «الفساد فى عصر محمد على». وكانت «المحسوبية» هى البوابة الأوسع للدخول إلى عالم «الميرى»، فيقوم الشخص الذى يرغب فى الحصول على وظيفة بالتقرب من كبار رجال الدولة والذين يرتبطون بالوالى ارتباطًا وثيقًا ليتوسطوا له عند الوالى فى الحصول على منصب حكومى.
وهو ما أكده الجبرتى فى حوادث سنة ١٨٠٩، حين ذكر أنه نتيجة العلاقات القوية بين السيد سلامة النجارى ومحمد أفندى طبل ناظر المهمات، فقد سعى الأخير لدى الوالى للحصول على وظيفة وإنعام للأول، فقدم محمد أفندى طبل إلى الوالى عددًا من الهدايا فأمر الوالى بتعيين «النجارى» فى وظيفة.
لم يكن هذا التقليد فى التعيين فى الوظائف الحكومية مرتبطًا بعصر محمد على وفقط، بل تجاوزه إلى خلفائه فى الحكم، وتواصل حتى عصر الخديو إسماعيل حين بزغ نجم شقيقه فى الرضاعة «إسماعيل المفتش» كباب عالٍ من الأبواب التى يتعين على كل من يحلم بوظيفة محترمة فى الدواوين أن يطرق عليه، على أن يكون محملًا بالمسوغات التى تغرى «المفتش» بالسعى فى تعيينه.
ولأن البدايات الأولى للدخول إلى عالم الوظيفة ارتبطت بـ«المحسوبية» التى تضرب مبدأ «أداء الأمانات إلى أهلها»، وتعيين من هو أجدر أو أكفأ، فقد أعاد بعض المصريين الذين دخلوا عالم الوظيفة تكييف بعض المبادئ والقيم الدينية وعملت آلة التبرير لديهم بكل طاقتها فى الدفاع عن الموظف، إذا حصل على الوظيفة بفساد وفسد وأفسد فيها. فالشرع، من وجهة نظر هؤلاء، يجرى مع المصلحة حيث تجرى، والضرورات تبيح المحظورات.
لم تكن الأجيال الأولى من الموظفين فى عصر محمد على قانعةً بالدخل الثابت الذى تحصل عليه، فانساق بعض أفرادها إلى استكمال ما يظنون أنه حق لهم من أموال الدواوين، فمدوا يدهم واختلسوا الأموال وسرقوا المُعدات، كما حققوا الكثير من المكاسب باستغلال النفوذ مع المتعاملين مع الدواوين من التجار والصناع وغيرهم. يقول رزق نورى، صاحب كتاب «الفساد فى عصر محمد على»: «تمدنا وثائق تلك الفترة- السنوات الأولى لبناء مصر الحديثة- بمعلومات مهمة عن الرشوة فى الدواوين والتى تورط فيها قطاع كبير من الموظفين من مختلف الفئات الوظيفية من الناظر إلى المديرين إلى الكتبة والصرافين، وبتحليل ظاهرة الرشوة يتضح لنا شبكة العلاقات التى ربطت أصحاب المصالح من التجار والصناع والبيروقراطيين، فأحد التجار الذين يوردون الأخشاب لمشروع القناطر الخيرية تم اتهامه بالاحتيال على الحكومة، وأثبتت التحقيقات تورط عدد من الموظفين معه، منهم هاشم أفندى ناظر مخزن الترسانة وكاتب اليومية بالمخزن المذكور».
من عجائب الفاسدين من الموظفين المصريين- فى عصر محمد على- ما صوروه لأنفسهم أن «الرشوة» أخف وطأة من «الاختلاس». فمد اليد إلى مال الدواوين كان يتم اكتشافه والعقاب عليه، أما مال المتعاملين من الدواوين من التجار والصناع فيشبه «الحسنة المخفية» التى تنفع صاحبها «الفاسد» ولا تزعج الدولة فى شىء!.. هكذا أقنع الموظف نفسه بأن الرشوة أهون من الاختلاس، ولم يفهم أن هذا النمط من التفكير ينقله من دائرة الفساد إلى دائرة التخريب.
فالقبول بالرشوة يعنى تسليم الدواوين خامات وأدوات قليلة الجودة يمكن أن تؤدى حين الاعتماد عليها إلى خراب مشروعات تتكلف الملايين. لم يفهم «الموظف الفاسد» أيام الوالى أن الاختلاس والرشوة داءان وبيلان وأداتان قادرتان على هدم أى جهد تنموى، وأن الخراب سيصب عنده فى النهاية.
فمنذ أن دهمته الحياة بقسوتها اعتاد المصرى تبرير أى مفسدة يجد نفسه مسوقًا إليها، يقول لنفسه: لقد بذلت ودفعت الكثير ودخلت الوظيفة بالمحسوبية، والمحسوبية لها ثمن لا بد من تحصيله عبر الوظيفة فى «الديوان»، ورغم أن الوظيفة تحقق دخلًا ثابتًا لصاحبها فإن هذا الدخل ضعيف قياسًا بما كان يحلم به من أن يصبح الديوان معراجًا يطير به إلى حيث الحياة المسترخية، لذا لا بد من إكمال الناقص عبر الحصول على الرشاوى.
خطا الموظف المصرى بعد ذلك خطوة أوسع عندما زغزغه ضميره الدينى وسأله: كيف تبرر لنفسك الرشوة ثم تصلى وتصوم وتحج وتعتمر؟. فكّر المسئول قليلًا ثم انطلق لسانه بالإجابة: لا تسمها «رشوة».. سمها «شاى أو دخان» حين يكون المبلغ تافهًا.. وسمها «إكرامية» حين يكون المبلغ متوسطًا، وسمها «هدية» حين تكون العطية ثمينة، وسمها «نفحة» إذا أردت التبرك، وسمها «حسنة» إذا أردت التقدس. وهكذا اجتهد بعض الموظفين- وليس كلهم بالطبع- فى التبرير والتنويم حتى خلد ضميره إلى النوم العميق، وحتى يكون أكثر اتساقًا مع نفسه بعد أن أصبحت الوظيفة فى الديوان مصدر عزه، فقد قرر أن يسمى «الديوان» بـ«المصلحة».