المضحك الحكيم.. محطات من حياة جلال عامر بعد 10 سنوات من الرحيل
بالحكمة قبل الضحكة عرف المصريون جلال عامر، ذلك الرجل السكندرى الذى تحول صدى كلماته لما يشبه صوتًا للضمير المصرى، ارتفع وسط زحام أحداث جسام مر بها هذا الوطن، لكن صِدق منهجه كفل له ولكلماته البقاء فى ذاكرة الجميع، ليحجز مقعدًا له وسط القامات الكبيرة التى ترفّعت عن الصغائر، وحملت الوطن قبل أن تحمل أى همّ آخر، فبقيت وبقى صاحبها حتى إن رحل بجسده.
إذا أردت أن تعرف ما الذى تبقى من جلال عامر، بعد ما يقرب من ١٠ سنوات على رحيله، فما عليك إلّا الذهاب لمحرك البحث الشهير «جوجل» باحثًا باسمه، لتجد كلماته التى تحولت إلى أيقونات ولآلئ يتداولها الجميع على صفحات التواصل الاجتماعى كل يوم، وكأن صاحبها لا يغيب ويعبر الزمن.
بدأ مسيرته من «القاهرة» وتوهج فى «الدستور».. وكتاباته موضوعات فى رسائل دكتوراه
من عند عروس «المتوسط» جاء، امتدادًا لسلسال من المبدعين المصريين الذين قدمتهم الإسكندرية، حيث ولد فى ٢٥ سبتمبر ١٩٥٢، بعد شهور من رياح الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية التى عرفتها مصر مع ثورة ٢٣ يوليو.
سيرته تليق بشخصيته كصوت للضمير المصرى، بداية من الدراسة فى الكلية الحربية والتخرج فيها، ومشاركته فى ٣ حروب، وكونه واحدًا من ضباط انتصار أكتوبر، كما أنه درس القانون فى كلية الحقوق، والفلسفة فى كلية الآداب.
مكافأة نهاية الخدمة التى يستحقها جاءته مع الشهرة ومحبة الناس، بعد أن التحق بجريدة «القاهرة»، تجربة الأستاذ الكبير الراحل صلاح عيسى، التى أصدرتها وزارة الثقافة المصرية فى عام ٢٠٠١، ومنها بدأت مرحلة جديدة فى حياة الساخر جلال عامر. أشرف «عامر» فى «القاهرة» على باب «مراسيل ومكاتيب للقراء»، كما عرفت مقالاته طريقها للمرة الأولى إلى جمهوره، ليتحول فى العقد الأخير من حياته لأحد أهم وأبرز الكُتّاب الساخرين فى مصر والوطن العربى.
أبدع جلال عامر فى فن الكتابة الساخرة حتى أصبح من أبرز علاماته فى العقود الأخيرة، وبحسابات التأثير وأعداد القراء، يقف جنبًا إلى جنب مع علامات ورموز هذا الفن فى بلاط «صاحبة الجلالة»، مثل محمود السعدنى وأحمد رجب وغيرهما من العلامات. كتب «عامر» فى جريدة «الأهالى» التابعة لحزب التجمع، كما توهجت تجربته فى جريدة «الدستور»، ومنها إلى عموده «تخاريف» فى «المصرى اليوم»، لينجح- رغم شهرته المتأخرة- فى أن يصبح أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا فى مصر، مُحاطًا بمحبة مئات الآلاف من القراء والمعجبين عبر مواقع التواصل الاجتماعى، التى كانت قد بدأت فى الظهور فى النصف الثانى من العقد الأول للألفية الجديدة.
اعتمد جلال عامر فى فن الكتابة الساخرة على التداعى الحر للأفكار والتكثيف الشديد، لكن ما زاد مشروعه وكتاباته بريقًا- بالإضافة لصدق منهجه بالطبع- هو تنوع مقالاته وقدرته على طرح عدد كبير من الأفكار فى المقال الواحد بطريقة فنية جذابة، ونجاحه فى ربط السياقات بشكل مدهش، بالإضافة إلى التوريات الرائعة فى محلها تمامًا، وبذلك النهج توهجت مقالاته، وواصل نجاحاته ما بين «الدستور» و«المصرى اليوم» وعموده فى «البديل».
وانتبهت الدراسات الأكاديمية لما يفعله جلال عامر، ولمدرسته المتطورة فى الكتابة، فى رسالة ماجستير قدمتها الباحثة إنجى عمر الخولى، بعنوان «البنية الأسلوبية والدلالة الساخرة داخل الأعمدة الصحفية المصرية»، التى أشرف عليها الدكتور محمود خليل، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة. وخلصت الباحثة فى دراستها إلى أن الكاتب جلال عامر وظّف أساليب السخرية بمختلف أشكالها بحرفية عالية، معتمدًا لغة عفوية فصيحة، لكنها مدعومة بالصيغ المحكية السائرة على ألسنة العامة، وكأنهما تفكران بصوت مسموع، وتلك ظاهرة أكسبت العمود الصحفى السّاخر حضورًا رشيقًا يحقق الاتصال الشخصى بين الكاتب والقارئ.
شارك فى 3 حروب بينها نصر أكتوبر.. وقلبه هُزم فى أحداث 2012
تُظهر نتائج البحث عبر محرك «جوجل»، والأرقام الكبيرة للقراء على الصفحات التى تحمل اسمه على مواقع التواصل الاجتماعى، أن شعبية جلال عامر تزداد، فحتى بعد مرور ١٠ سنوات على رحيله، ما زالت اقتباسات مقالاته تحقق أرقام مشاركات كبيرة فى المواقف المختلفة، بما يعكس عبور صاحبها للزمن.
من أبرز كتبه التى قدمها للمكتبة العربية كان «مصر على كف عفريت»، الذى صدر فى عام ٢٠٠٩ عن «دار العين»، والكتاب، طبقًا لما يرى «عامر»، هو محاولة لبحث حالة وطن كان يملك غطاء ذهب فأصبح من دون غطاء بلاعة.
كانت سخرية جلال عامر صادقة، تحمل هم الوطن، سخرية وطنى حقيقى لا يتاجر بمعارضته، لكنه يحمل هم الوطن الحقيقى، فخرجت كلماته لاذعة حرة واستقرت فى قلوب القراء.
ولا تخفى أبدًا وسط كلمات جلال عامر، كاتبًا ومفكرًا، لمحة الرجل العسكرى البطل الذى ينتمى للجيش المصرى ويحمل شرف العسكرية المصرية، فهو قائد سرية مشاة بالفرقة ١٨ مشاة ميكانيكا، فى نصر أكتوبر المجيد، تحت قيادة العميد فؤاد عزيز غالى، من أبطال تحرير مدينة القنطرة شرق.
اشترك جلال عامر فى ٣ حروب تاريخية، هى: حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر وحرب تحرير الكويت، وقال عن ذكرياته فى نصر أكتوبر: «رغم أننى سكندرى أصيل مولود على بحر الأنفوشى، لم أعبر القنال سباحة أو فى قارب، لكن فى معدية على المعبر، لأجد محمود مختار، شقيق حسن مختار، حارس مرمى الإسماعيلى وقتها وزوج السيدة رجاء الجداوى، يُقبّل الأرض ويغنى (أدينا عدينا) واحتضننى، بينما تقذف الفانتوم علينا قنابل البلى».
حكاية الفرقة ١٨ مشاة فى نصر أكتوبر كانت مثيرة، فقد نجحت فى تحرير مدينة القنطرة شرق، بقيادة اللواء فؤاد عزيز غالى، يوم الإثنين ٨ أكتوبر، فى واحدة من أشهر وأهم معارك حرب أكتوبر، حيث حاصرت الفرقة المدينة ثم اقتحمتها، وهى الخطة التى كان سبق ورفضها المشير أحمد إسماعيل، الذى طلب من «عزيز» أن يكون الهجوم بالالتفاف، لكن قائد الفرقة كان قد درّب رجاله على الاقتحام، وهو ما نجحوا فيه.
رحيل مبكر ومفاجئ لـ«جلال عامر»، اختطفه من وسط محبيه، فلم تهزمه الحرب، لكن هزمه قلبه ورقته، حين أصابته أزمة قلبية فجر ١٢ فبراير ٢٠١٢، عندما شاهد البلطجية فى رأس التين يضربون المتظاهرين، لم يحتمل قلبه المشهد، رحل وترك كلماته باقية تقدم دليلًا على أن الساخر المصرى يستطيع أن يكون فيلسوفًا عابرًا للزمن.