المصريون فى القرن الـ19: الأكل «بالإيد».. والقهوة «محرمة»
للمصريين طرقهم الخاصة فى إلباس طقوس الدين ثوب العادة، وفى تحويل العادة إلى طقس دينى، وإكسابها بعض المبررات الشرعية، وهى العادات التى تتغير وتتوارى مبرراتها الشرعية فى بعض الأحوال نتيجة الاحتكاك الثقافى بالآخر لتحل محلها عادات جديدة تغلب على الجميع بمرور الوقت.
لو أننا تتبعنا بعض جوانب أسلوب حياة المصريين بداية القرن التاسع عشر فسوف نجد عجبًا فيما يتعلق بذلك الحضور الطاغى للدين فى العديد من جوانب الحياة، الحضور بمبرر ودون مبرر، وهو فى كل الأحوال حضور يخترق كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتغلغل فى أبسط تفاصيل الحياة اليومية.
دعونا نبدأ الرحلة من طقوس الأكل والشرب التى اعتاد عليها المصريون خلال القرن التاسع عشر، لنرى كيف اجتهد إنسان هذا العصر فى إكساب عاداته اليومية التى يمكن أداؤها على أى نحو ثوبًا دينيًا يختلط فيه ما يمكن النظر إليه كعادة موروثة، ترتبط بالتراث الدينى، بما هو طبقى، يتعلق بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
أقدم نص تعامل مع طقوس الطعام والشراب التى اعتاد عليها المصريون خلال القرن التاسع عشر نجده فى المذكرات اليومية التى كتبها الضابط الفرنسى «جوزيف مارى مواريه»، وسجل فيها العديد من الأحداث اليومية التى عاشتها الحملة فى مصر، بالإضافة إلى مشاهداته حول عادات وأحوال المصريين وبعض تفاصيل الحياة اليومية الخاصة بهم.
يصف «مواريه»، ضابط الحملة الفرنسية، عادات المصريين فى الطعام أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، فيشير إلى أن التهيؤ للطعام يبدأ بفرش قطعة جلد كبيرة على الأرض لترص عليها أطباق الأكل «لم تكن الطبالى قد تم اختراعها بعد»، ليتجمع حولها أهل البيت للأكل. وكانت الطريقة التى يجلس بها كل من يأكل تعبر عن قيمته ومقامه داخل البيت، فأصحاب المقام العالى يجلسون مربعين أقدامهم بشكل مريح، فى حين يلتزم الأقل مقامًا بـ«القرفصة» حين الأكل أو يأخذ وضع الركوع وهو يلتقط ما يطعمه.
وقتها كان المصريون يعرفون الملاعق الخشبية، وكانت موجودة فى بعض البيوت، لكنها لم تكن مستخدمة على نطاق واسع، وكانت غالبية الناس تفضل التقاط الطعام بأصابعها «أصابع اليد اليمنى الثلاثة»، لأن تلك هى السنة والطريقة التى كان يأكل بها النبى، صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أن يأكل الفرد بيده اليسرى، لأنها مخصصة للتطهر بعد قضاء الحاجة. واعتاد المصريون- فقراء وأغنياء- على غسل أيديهم بعد تناول الطعام. الغنى يغسلها بالصابون، والفقير يدعكها بالتراب.
الملاحظ فى الوصف الذى قدمه «مواريه» لطقوس الطعام لدى المصريين أن الوضعية الطبقية كانت تتدخل فى تحديد هيئة الجلوس لتناول الطعام، فالأعلى مقامًا يجلس جلسة مستريحة «لأنه جالب النعمة»، أما الأقل فيقرفص أو يركع بهيئة مرهقة «حتى يتعلم قيمة النعمة»، يضاف إلى ذلك عدم التفرقة بين ما هو دينى وما هو عاداتى، والاعتماد على أصابع اليد فى تناول الطعام، رغم وجود الملاعق، انطلاقًا من أن تلك هى السنة، دون وعى بأن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان يؤدى تبعًا للأدوات المتاحة فى عصره، وأنه لو جاء فى عصر آخر لاستفاد من أدواته.
بعد الفراغ من الطعام وغسل اليدين- وهى عادة صحية جيدة لكنها ترتبط أيضًا باستخدامهما كأداة لالتقاط الطعام- يأتى دور القهوة حيث يحرص المصريون على شربها عقب الوجبات، وفى أوقات أخرى متعددة على مدار اليوم. وقد ارتبطت معرفة المصريين لـ«القهوة» أو «البن» أوائل العقد الثانى من القرن السادس عشر «أيام السلطان قنصوة الغورى» بواقعة طريفة، كما يقرر «محمد الأرناؤوط» فى كتابه «من التاريخ الثقافى للقهوة والمقاهى»، حين ضبط «خاير بك»- نائب السلطان الغورى على قافلة الحج- أحد الحجيج وهو يشرب القهوة إلى جوار الحرم، فألقى القبض عليه، وأُشيع الأمر بين الناس، وبدأت مسألة شرب القهوة تدخل مربع الفتوى الدينية فصدرت فتوى بتحريمها، بسبب ميل الناس إلى شربها فى جماعات، تشبه الجماعات التى تنعقد لتعاطى الخمر.
عورضت هذه الفتوى شعبيًا، وردد بعض العلماء بأن البن مجرد حب أو نبات الأصل فيه هو الإباحة. وفى سياق الجدل تقرر اللجوء إلى طبيبين من مكة لحسم الأمر وتقرير ما إذا كان للقهوة أثر ضار على البدن أو العقل، وفاجأت النتيجة محبى القهوة حين أعلن الطبيبان أن المشروب المتخذ من قشر البن مفسد للبدن المعتدل، وبناءً عليه قرر «خاير بك» تحريم شرب القهوة.
تم حسم أمر مشروعية «القهوة» من الناحية الدينية، حين أصر عدد من محبى هذا المشروب على مراجعة شيخ الإسلام بمكة زكريا الأنصارى الذى يأخذ عنه فقهاء الأقطار الإسلامية المختلفة، بمن فيهم الفقيه الأكبر فى مصر «شهاب الدين الرملى»، أمام هذا الضغط قرر «الأنصارى» أن يقوم بتجربة عملية يختبر من خلالها تأثير هذا المشروب على عقل المسلم وبدنه، فعزم جماعة من أصحابه وطبخ لهم القهوة وسقاهم المشروب، ثم انخرط معهم فى الحديث، وهو يلاحظ- بمنتهى الدقة- أى تغيير حصل على طريقتهم فى الكلام أو وعيهم بالحديث الذى يدور.. بعدها خرج «الأنصارى» إلى الناس قاطعًا برأيه فى القهوة وأعلن أنها حلال.. حلال.. حلال.
بعد صدور فتوى تحليلها تحوّلت القهوة إلى طقس أساسى من طقوس الحياة اليومية للمصريين، ويحكى «مواريه» فى كتابه «مذكرات ضابط فى الحملة الفرنسية على مصر» أنه لم يكن فى مصر قبل قدوم الفرنسيين أى حانات، ولم يكن ثمة مرطبات سوى القهوة السادة كعادة المصريين فى تناولها، وكانوا لا يدخرون فى هذا وسعًا، حتى أنهم كانوا يحتسون ما يقرب من ٢٠ فنجانًا فى اليوم، وكان هذا يمثل غذاءهم الرئيسى.
المضحك أن المصريين تعاملوا بالطريقة نفسها وبعد مرور عقود طويلة على هذا الحدث مع المشروبات الغازية، إذ تحفظ عليها البعض، وامتنع عن شربها، حتى صدرت الفتاوى بعدم حرمتها.. إنها ذهنية التحريم التى تحكم معدة المصريين.