«محمد الصغير».. أذكى رجل شرطة فى بر مصر
لم تخلُ حقبة فى تاريخ مصر من وجود أجهزة أمنية مسئولة عن حفظ النظام داخل المجتمع، وتستطيع أن ترصد الظهور المبكر لرجال الشرطة فى مصر منذ عصر الفراعنة، وتواصل الظهور فى العصور والمراحل التالية التى مرت بها مصر حتى وصلت إلى عصر السيطرة العثمانية.. عبر هذه الرحلة الممتدة لم يسجل المؤرخون سوى أسماء معدودة من رجال الأمن الذين امتازوا بالذكاء اللامع والقدرة الخاصة على فك ألغاز الجرائم، بالإضافة إلى ما تمتعوا به من حس أمنى كان يمكّنهم باستمرار من وأد الجريمة فى مهدها وحجزها عند المنبع.
فى الحقبة العثمانية- المملوكية من تاريخ مصر لم يهتم «الجبرتى» بسرد السيرة الذاتية لرجل أمن كما اهتم بتسجيل رحلة «كجك محمد»، وكلمة «كجك» بالتركية معناها «الصغير»، لذا بإمكانك أن تسميه بـ«محمد الصغير»، وهو رجل أمن امتاز بذكاء مبهر وبراعة فى اكتشاف المجرمين وفك ألغاز الجرائم، كما تمتع بحس أمنى عالٍ، لكن ذلك لم يغنِ عنه شيئًا فى ختام حياته، حين مات صريعًا برصاصة وجهها إليه أحد غرمائه.
«كجك محمد» أو «محمد الصغير» عمل لفترة من الزمن فى موقع «المستحفظان»، وهو موقع يقترب فى الدور والقيمة من موقع «مدير الأمن» حاليًا، ومهمته الأساسية- كما يذهب الدكتور ناصر الأنصارى صاحب كتاب «تاريخ أنظمة الشرطة فى مصر»- تتمثل فى مباشرة شئون الأمن بالعاصمة وتتبع المفسدين من اللصوص وقُطاع الطرق والقبض عليهم لإقرار النظام، كما يختص بمراقبة الأسعار والموازين والمقاييس والمكاييل لضبط الأسواق، وقد اشتهر «محمد الصغير» بصورة خاصة خلال أحداث شح النيل التى شهدتها مصر عام ١٦٩٤ ميلادية «١١٠٦ هـ» فغلت أسعار الغلال خصوصًا القمح.
تحرك «الصغير» خلال هذه الأزمة بأقصى درجات السرعة والانضباط إلى أسواق الغلال بساحل بولاق وأعطى تعليماته للتجار بعدم استغلال الموقف والمغالاة فى الأسعار، وعيّن مندوبين من جهته يراقبان حركة البيع والشراء، ويعدان له تقارير حول سير الأوضاع، وكان يستخدم الحيلة فى ردع من تسول له نفسه رفع الأسعار، فدأب على أن يبعث بحماره و«حمّاره» يوميًا إلى ساحل بولاق ليطوف بالأسواق، وكان وجوده «حماره» يعنى أن رجل الأمن النشيط يتجول فى الأسواق، مما كان يجبر التجار على الالتزام بتعليماته.
موقف «كجك محمد» خلال فترة الجفاف وشح الغلال كان موضع احتفاء من جانب المصريين الذين كانوا يعانون كل المعاناة فى مثل هذه الأوقات، حين يستغل التجار حاجتهم إلى الطعام، فيبالغون فى رفع أسعاره، ويخفونه من الأسواق حتى يقل العرض ويشتعل السعر أكثر وأكثر، وقد أدرك أهل مصر قيمة هذا الرجل بعد اغتياله، حين وصل سعر القمح إلى ٦٠٠ نصف فضة بعد أن كان ٦٠ أيام «كجك محمد»، أى تضاعف السعر ١٠ مرات.
عُرف «كجك» بين الناس بنشاطه وحسمه، وحسه الأمنى الواضح، وقدرته على الضبط والربط بصورة لم يعهدها المصريون فى رجل أمن من قبله، لكنه اشتهر أكثر بذكائه وبراعة حيله التى اعتمد عليها فى اكتشاف المجرمين أو رد الحقوق إلى أصحابها، وقد حكى «الجبرتى» واحدة من أشهر نوادره فى هذا السياق، والتى ارتبطت بواحد من كبار تجار الصاغة بالقاهرة أواخر القرن السابع عشر.
بدأت تفاعلات الواقعة عندما قرر أحد كبار تجار المصاغ الحج إلى بيت الله الحرام، فجمع ما لديه من جواهر وذهب وفضة وكذلك حلى أهل بيته، وأثبتها فى كشف، ثم وضعها فى صندوق كبير، وسار به إلى أحد أصحابه، وهو التاجر «الخواجا على الفيومى»، وكان واحدًا من كبار التجار بسوق «مرجوش»، وترك الصندوق لديه على سبيل الأمانة التى يؤديها له بعد عودته من الحج، كانت عادة المصريين فى ذلك الوقت أن يتركوا أماناتهم فى حالة السفر أو الخطر عند من يثقون فيهم من كبار التجار أو المشايخ، وبالتالى فإن ما فعله الصائغ لم يكن عليه أى عتب فيه، فقد جرى على سُنة الناس فى ذلك الوقت، وفعل مثلما يفعلون، حين كانت الأمانة خُلقًا رفيعًا من منظومة أخلاق أغلب المصريين، كما جرت العادة حينذاك أن يستغرق الحج زمنًا طويلًا، بسبب تعقد وبطء وسائل السفر والنقل عبر القوافل السنوية التى تتحرك من القاهرة إلى مكة.
استغرقت رحلة الحج التى قام بها الصائغ عامًا كاملًا عاد بعدها إلى المحروسة، فاستقبله أهله وأحباؤه وأصدقاؤه بالبشر والترحاب، وتعددت لقاءاته بهم على مدار عدة أيام.. فى كل يوم كان «الصائغ» يتفقد الخواجا على الفيومى بين زواره ولا يجده، أصابه القلق عليه فأنشأ يسأل عنه الأصدقاء المشتركين فأخبروه بأنه بصحة وعافية، ولما طال به الانتظار قرر أن يذهب إليه، حمل هدية من التمر واللبان والليف، وطرق باب الخواجا، استقبله الأخير استقبالًا غريبًا، فما إن مد الصائغ يده بالهدية حتى ابتدره «الخواجا» قائلًا: من أنت؟.. أنا لا أعرفك!.. فرد الصائغ: أنا فلان.. صاحب الصندوق، فأجابه: أى صندوق؟
أنكر الصديق الخائن معرفته بالصائغ أو الصندوق الذى يتحدث عنه، فخرج الرجل وقد طار عقله من رأسه، وضرب كفًا بكف، وتمنى لو كان قد كتب عليه ما يثبت أنه ترك الصندوق عنده، ولما بلغت به الحيرة مبلغها، نصحه بعضهم بطرق باب رجل الأمن الأول فى مصر «كجك محمد»، فذهب إليه وقص عليه حكايته، وأراد الأخير أن يحل المشكلة بما عهد عنه من ذكاء، فطلب من الصائغ أن يذهب إلى إحدى الغرف فى داره ويختبئ فيها إلى أن يطلبه، ثم أرسل فى طلب الخواجا على الفيومى.
وصل الخواجا إلى دار «كجك محمد» فأحسن استقباله، وأخذ يحادثه ويتودد إليه، ووجد فى يده «سبحة» حباتها من المرجان فالتقطها منه، وأخذ يعبث بحباتها، ثم استأذنه لدقائق، وتركه حيث يجلس، وذهب إلى خادمه، فأعطاه «السبحة» وطلب منه أن يصطحب معه خادم «الخواجا» الذى يقف بالخارج، وأن يترك ركوبته أمام الدار، ويذهبا معًا إلى بيت «الخواجا» ويطلبان من حريمه الصندوق الأمانة الموجود لديه.. نفذ الخادم الأمر، ولما وصل بصحبة خادم «الخواجا» وطلب من حريمه الصندوق وأعطاهن السبحة كأمارة أعطينه إياه.
فى تلك الأثناء كان «كجك» يجالس «الخواجا» ويبش له فى الحديث، ثم سأله فجأة عن الصندوق الذى تركه الصائغ لديه على سبيل الأمانة، فحلف «الخواجا» برأسه أنه لا يعرفه، وأنه رجل أصابه الجنون، وفى تلك اللحظات دخل الخادمان بالصندوق فاصفر وجه «الخواجا» وشعر بالفخ الذى وقع فيه.. طلب «كجك» الصائغ وأمره بإبراز كشف المحتويات، وفتح الصندوق، فوجد المحتويات كما هى مسجلة، فأعطاه صندوقه فطار به وهو لا يكاد يصدق أن ثروته رُدت إليه.
بعدها توجه «كجك» إلى الخواجا قائلًا: صاحب الأمانة أخذها.. وإيش جلوسك؟.. فقام الخواجا وطار هو الآخر من المنزل وهو لا يصدق أنه نجا.
انتهت سيرة رجل الأمن برصاصة أطلقها عليه أحد غرمائه، حين تربص له بأحد المساجد وصوّب مسدسه من شباك فيه، وعندما كان يمر «كجك محمد» بطريق المحجر حيث يقع المسجد أطلق عليه النار فأرداه قتيلًا.