رأفت الخولى: في كل مرة أجدنى مدفوعاً للكتابة بهاجس لا أعرف شكله أو مضمونه
نهاية العمل الأدبي أو ما يمكن أن نسميه إذا جاز التعبير "القفلة"، سواء في القصة القصيرة أو الرواية، أمر شديد الأهمية للكاتب والمبدع، وهو ما يطرح السؤال، هل نهاية العمل الأدبي تكون مسبقة في ذهن الكاتب، أم أنها تتغير من حين لأخر، أم أن سير السرد وحبكته، ومصائر شخصيات العمل الأدبي وموضوعه هي التي تفرض هذه النهاية؟. وغيرها مما يخص هذه الجزئية شديدة الأهمية في العمل الإبداعي الكتابي.
وفي هذا الصدد قال الكاتب الروائي رأفت الخولي لــ"الدستور":لست أعتقد أن يتم التخطيط لبنيان دون أن يكون هناك تصور لشكله ومراحل إنشائه ونهايته، ذلك في أغلب أمور حياتنا الموسومة بالعقل إن لم يكن في كلها لكن للأدب شأناً آخر. إذ هو في الحقيقة عمل يتداخل فيه اللا شعور بالوعي الكامل، وتطفو العاطفة أحيانا فوق كل لبناته، ثم ما تلبث أن تغوص في العمق ليتقلد العقل زمام الأمور، هكذا جيئة وذهاباً على مدار ساعات الإبداع وربما لحظاته، لذا لا يمكن الجزم بنهاية محددة وواضحة لنهاية العمل سواء عند البدء أو خلال مراحل التشييد.
وأوضح "الخولي": فالإبداع خلق من نوع خاص يتداخل فيه الماضي بالآني والمستقبلي، وتقفز خلال البناء لحظات عصيبة يعانيها المبدع ليصل إلى صياغة فكرة أو توضيح شعور يستعصي عليه وصفه برغم وجود مادته داخل وجدانه، فالشاعر على سبيل المثال ينتابه شعور عاطفي من نوع خاص، ودافع داخلي يسيطر عليه لا يدري بالضرورة كنهه، يدعوه لأن يمسك بالقلم ليخط كلمات ويصوغ معانٍ ربما لا يدري كنهها ولا تعطيه سرها فى تلك اللحظة الخالدة من تاريخه الشخصي، ليكتشف بعد أن يصعد الإلهام بعد هبوط, أنه أنتج كلمات يدق معناها عن المعاني العادية المعاشة، ويكتشف أنه كان مغادراً لواقعه الآني، مسافراً في عالم يخص خياله وحده، وقد أنتج من خلاله فكراً وصاغ موسيقي، ورسم خطوطاً أخري موازية لخطوط الواقع لكنها لا تتقاطع معه.
واستطرد "الخولي" متابعا: أما القاص والروائي، فهو وإن تبلورتْ في ذهنه الفكرة، لتصبح جلية متداعية تطالب بالتحرر من قيد الذاكرة إلى معترك الكلام المعبر، فإنها رغم ذلك تكون فكرة البدء الغير قادرة على صوغ النهاية أو وضع ملامحها، ثم يستمر يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة تتداعى لدية الفكرة ثم الفكرة، لترسم كلها مجتمعة أو بالأحرى متسلسة شكلاً لبناء قصصي أو روائي لم يكن المبدع نفسه يعرفه أو يخطط له.
وهذا لا يعني أن الكتابة القصصية تنبني على خزعبلات أو هراء لا معني له، لكنها في الأصل تخرج من مكنون النفس كخلاصة لتجارب واقعية أو خيالية أو هما معاً، إلا أنها لا تسير فى بنيان هيراركي قد خطط له الكاتب أو حتى تنبأ به، لكنَّ هناك شكلاً من أشكال الكتابة الحِرفية تكون بدايتها هي النهاية والسرد محض استرجاع أو فلاش باك وهذا مما يتوقف على خبرة الكاتب، إلا أننى ما زلت أرى أنها برغم معرفة المبدع بها منذ اللحظة الأولى، فهي لا تعدو أن تكون إلهاماً لنهاية عمل لا يدري هو بدايته، بل يترك للقلم أن يسترسل حتى يصل إلى البداية التى هى فى تقديري النهاية الغير مخطط لها.
حدث ذلك معي في أعمالي الروائية الخمسة ( الخريف الأخير ـ أيام محبوبة ـ جسر السويس ـ مقام الدرديري ـ بسمة أيام فهمي باشا وأولاد التلاوي ) . ففي كل مرة أجدني مدفوعاً للكتابة بهاجس لا أعرف شكله أو مضمونه، تتداخل فى مخيلتي مجموعة هائلة من الأفكار الهلامية التي لا أستطيع الإمسال بأيِّ منها، وعند عصف الذهن الذى اعتدت أن أمارسه بقوة غير تقليدية، أمسك بأول خيط لأصدَق هذه الأفكار في ذهني, ثم ما تلبث أن تتوارد أفكار أخرى منبثقة منها، ليسير النسيج الروائي وحده، سواء على مدار الفصل الواحد أو على مدار العمل بأكمله، لأجدني في النهاية قد انتهيت إلى حبكة للعمل لم أكن أتوقعها أو أرسم خطاً لها.
