رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بخط اليد.. حمدى الكنيسى يكتب عن تجربته كمراسل فى حرب أكتوبر

حمدى الكنيسى
حمدى الكنيسى

قبلت أرض سيناء بمجرد وصولى إليها.. ونجوت من قصف مدفعية العدو

مفارقة عجيبة فى حياة الإعلامى الكبير الراحل حمدى الكنيسى، مراسل الإذاعة الحربى منذ حرب الاستنزاف حتى حرب أكتوبر، فقد كان يقدم برنامج «صوت المعركة»، الذى لفت نظر الرئيس السادات بعد إطلاعه على أصداء البرنامج فى الداخل الإسرائيلى، فاستقبله وأوصى به خيرًا، وكان أن عرضوا عليه ترقية استثنائية فرفض أن يتقاضى أجرًا مقابل إسهامه الإعلامى فى حرب أكتوبر، وتمر السنوات ليعاتبنى حمدى الكنيسى أننى كنت سببًا فى تأخير ترقيته رئيسًا للإذاعة لمدة سنة كاملة، وذلك لاعتقاده أن الملف الخاص الذى كلفت به زملائى بمجلة الإذاعة والتليفزيون احتفالًا بالعيد الستين لفاروق شوشة، قد أسهم فى التمديد سنة أخرى لفاروق شوشة، رئيسًا للإذاعة، ونسى أو لعله كان لا يعرف أن التمديد لشوشة جاء من الرئيس مبارك نفسه، الذى كان معجبًا به لقصيدة كتبها شوشة احتفاء بنجاته من حادث محاولة اغتياله فى أديس أبابا، وعندما نجح حمدى الكنيسى فى إنشاء نقابة للإعلاميين بعد كفاح طويل حتى أصبح أول رئيس لها، كان كثيرًا ما يشكو لى من محاولات بعض من جاء بهم فى النقابة لإزاحته عن رئاستها.

وتذهب كل المناصب لتبقى قيمة ما فعله حمدى الكنيسى ويكتب له فى سيرته كمراسل حربى للإذاعة المصرية خلال حرب أكتوبر، أعظم أيام مصر، وقد طلبت منه أن يكتب عن تجربته لأضمنها كتابى القادم عن تاريخ الإذاعة المصرية، وقد استجاب مشكورًا، وكان ذلك آخر لقاء لى به منذ عام تقريبًا، وهو يسلمنى أوراقه بخط يده.

جواب الكنيسي

كتب حمدى الكنيسى قائلًا:

يتصور البعض أننى بدأت مهمتى أو رسالتى كمراسل حربى للإذاعة مع حرب أكتوبر ١٩٧٣، علمًا بأننى مارست هذه المهمة أثناء حرب الاستنزاف وبعد أيام قليلة من وقوع نكسة ١٩٦٧، إذ إننى بمشاعر الأديب القصصى والروائى، عشت صدمة ومأساة النكسة بكل مرارتها، وهو نفس الموقف الذى عاشه صديقى الأديب اللامع جمال الغيطانى، حتى إننا اجتمعنا معًا فى الإصرار على متابعة وتغطية أحداث وقائع حرب الاستنزاف بمجرد اندلاع شرارتها، وكنا نتحرك معًا- أحيانًا- إلى مدن القناة ومواقع قواتنا على الضفة الغربية فى مواجهة قوات العدو التى باحتلالها لسيناء انتشرت على الضفة الشرقية، حيث أقامت حصون أو قلاع «خط بارليف»، كما أقامت الساتر الترابى، الذى يرتفع إلى ٢٥ مترًا بامتداد القناة، وكنت فى الصباح المبكر كل يوم أتحرك حاملًا معى جهاز التسجيل الإذاعى «النجرا» لأجرى لقاءات وحوارات، بدءًا من يوم ٢٠ يونيو ١٩٦٧، وكان أول لقاء سجلته مع أحد المقاتلين، الذين عبروا القناة فى مجموعة من ٢٠ مقاتلًا من الصاعقة ودمروا دبابتين للعدو، وقتلوا ما يصل إلى عشرة جنود وضباط، وأسروا ضابطًا حمله ذلك المقاتل وعاد به مع زملائه عبر القناة إلى موقعهم فى الضفة الشرقية.

من جهة أخرى، واصلت تسجيل اللقاءات مع من تبقى من أبناء السويس والإسماعيلية وبورسعيد الذين رفضوا التهجير إلى القاهرة والوجه البحرى مع الآخرين، ومن التسجيلات التى أجريتها فى السويس مع مجموعة ولاد الأرض، ما أثار اهتمام ملايين المستمعين، مثل ذلك اللقاء الذى أجريته أمام منزل من ثلاثة أدوار تقريبًا، وقد فوجئت بسيارة فوق السقف، وشرح لى الكابتن غزالى السر فى ذلك المكان قائلًا: طبعًا إنت مش مصدق عينيك، وإيه اللى رفع العربية دى فوق البيت.. الحكاية إنه فى إحدى غارات طائرات العدو أسقطت قنبلة - بيقولوا ألف رطل - وعملت تفريغ هوا قذف السيارة إلى أعلى فى هذا المكان زى ما إنت شايف، وقد تمنيت وقتها لو كان معى كاميرا تليفزيونية لألتقط بها الصورة النادرة والمذهلة لتلك السيارة فوق العمارة، لكننى بالوصف الدقيق الذى أجيده نقلت ما يعوض غياب الكاميرا.

ومن اللقاءات التى أثارت اهتمام الملايين من المستمعين ما حمله الوصف الشعبى لمدافع العدو ومدافع قواتنا، فمثلًا أثناء حوار أجريه مع أحد الشباب دوى صوت بعض القذائف التى أطلقها مدفع إسرائيلى «هاوتزر»، وقال الشاب: إحنا مسميينه «أبوجاموس».. لأن صوت الدانة يشبه كده، إنما تأكد إن هيرد عليه دلوقتى «الشيخ طه» وهو الاسم الشعبى للمدفع المصرى.

ولعلنى أعتز بتسجيل أجريته مع مهندس من رجال شركة المقاولون الذين استشهد بعضهم أثناء إحدى الغارات، بينما كانوا يعدون مواقع حائط الصواريخ، التى طلبها عبدالناصر بإصرار من الاتحاد السوفيتى للتصدى لمقاتلات وقاذفات العدو، التى استباحت أجواءنا أحيانًا كما حدث فى «البحر»، وبالمناسبة كانت حوائط الصواريخ تلك من أسباب انتصارنا فى حرب أكتوبر بعد ذلك، لأنها أوقفت وعطلت ما كانت إسرائيل تمتلكه من تفوق جوى، حتى إنه عندما بدأت حرب أكتوبر وتوالى سقوط طائراتهم صدرت التعليمات للطيارين بعدم الاقتراب من مسافة ١٥ كيلومترًا شرق القناة.

هكذا كانت بداية مهمتى الإذاعية كمراسل حربى- دون التعريف المباشر المصطلح عليه بعد ذلك- وأحمد الله على ما استطعت تقديمه أثناء حرب الاستنزاف، التى كانت بمثابة حرب مستقلة أزعجت إسرائيل، وجسدت رفضنا العملى القاطع لنتائج نكسة يونيو ١٩٦٧، وقد نجحت فى إذاعة ما تم تسريبه من تل أبيب عندما صرح موشيه ديان، وزير الدفاع ومعشوق إسرائيل، فى أعقاب النكسة عندما قال واثقًا إنه فى انتظار مكالمة من عبدالناصر يعلن فيها الاستسلام التام، ويضع «ديان» شروطه لما بعد احتلال سيناء، لكن ما حدث هو أنه بدلًا من المكالمة الناصرية جاءه خبر انطلاق حرب الاستنزاف التى بدأت بمعركة «رأس العش»، التى تصدى فيها عدد محدود من رجال الصاعقة للدبابات والمدرعات الإسرائيلية ودمروا بعضها، وقتلوا العشرات من الجنود والضباط.. وعندما حاولت إسرائيل الهجوم مرة أخرى على ذلك الموقع لاحتلاله والانطلاق منه إلى مدينة بورفؤاد، التى كانت الجزء الوحيد الذى نجا من احتلال سيناء، نجح رجال الصاعقة فى صد المحاولة الإسرائيلية الجديدة ودمروا ما دمروه من دباباتهم وقتلوا من قتلوه من جنودهم، ثم كانت الغارات المفاجئة التى نفذها ما تبقى من طائراتنا، ودمروا بعض المواقع التى احتلها العدو، وأصابوا من فيها بالذعر والانهيار.

وتوالت عمليات حرب الاستنزاف، مثل قيام مجموعة محدودة من الضفادع البشرية من رجال الصاعقة بضرب ميناء إيلات وتدمير السفن الموجودة فيه، ومن العمليات الكبرى ضرب وتدمير أكبر مدمرة إسرائيلية «إيلات»، عندما اقتربت من بورسعيد، ثم توالت عمليات الكمائن التى نفذها بشجاعة واقتدار مقاتلونا بعبورهم القناة ليلًا أو حتى نهارًا إلى الضفة الشرقية وتدمير الدبابات والمدرعات واصطياد الجنود والضباط، فيسقط منهم من يسقط قتيلًا أو يرفع يده طالبًا الاستسلام، فيتم أسره والعودة به إلى مواقعنا فى الضفة الغربية، وليس سرًا أن إسرائيل بعد الصدمات التى تلقتها طوال حرب الاستنزاف طلبت من أمريكا التوسط لإيقاف هذه الحرب، ووافقت مصر حتى تستثمر الوقت فى استكمال بناء حائط الصواريخ واستكمال خطوات وإجراءات الإعداد للحرب الشاملة التى اندلعت بعد ذلك فى السادس من أكتوبر ١٩٧٣، العاشر من رمضان، حيث بدأ دورى كمراسل حربى بالشكل الرسمى المباشر، حيث تحركت بمجرد إصدار البيان الأول للحرب إلى مكتب رئيس الإذاعة وقتئذ محمد محمود شعبان «بابا شارو»، وأبلغته باستعدادى للتوجه فورًا إلى جبهة القتال، وأكدت له إصرارى على ذلك، وذكرته بما كنت أقوم به أثناء حرب الاستنزاف، كما أنه من الوارد استدعائى للجيش كضابط احتياط مما ييسر مهمتى.

وهنا أبلغ وزير الإعلام الدكتور عبدالقادر حاتم باعتمادى مراسلًا حربيًا للإذاعة، فأبدى ترحيبه فورًا، وهنا بدأت الخطوة التالية الضرورية، حيث عدت إلى منزلى وطلبت من عمى أن يأخذ زوجتى والبنتين «حيث كانت ابنتى الثالثة لم تولد بعد» إلى البلدة حتى أتفرغ تمامًا للتحرك إلى الجبهة يوميًا.

وفى الصباح المبكر، توجهت مع بعض المراسلين الحربيين «الصحفيين» إلى الإسماعيلية حيث أبلغنا مدير مكتب المخابرات الحربية أن المعابر «الكبارى العامة» التى أقامها سلاح المهندسين تتعرض فى تلك اللحظة لقذائف مدفعية العدو، وبالتالى تحركنا بالقوارب المطاطية إلى الضفة الشرقية، وما إن لمست أقدامنا أرض سيناء حتى انفعلنا جميعًا وقبلنا الأرض التى بدأنا تحريرها، وعلى الفور سارعت بجهاز التسجيل الإذاعى «النجرا» إلى أول موقع احتلته مجموعة من مقاتلينا بعد القضاء على الجنود والضباط الإسرائيليين الذين كانوا بداخله، وكان أول تسجيل مع المقاتل إبراهيم الذى قال: «مفيش حد يعرف قيمة اللى بدأناه زى اللى قعد ست سنين فى الخنادق، وكل ما يبص قدامه كان يلاقى العلم الإسرائيلى فوق الساتر الترابى وكأنه بينغرس فى عينيه وعلشان كده ما صدقنا تبدأ الحرب وعبرنا القناة، وكنا أول مجموعة توصل هنا ونضرب ولاد الكلب اللى خرجوا من القلعة بتاعتهم مذعورين وقتلناهم كلهم تقريبًا».

وهكذا على مدار أيام الحرب صار برنامجى اليومى التحرك من القاهرة فجرًا إلى جبهة القتال لتسجيل اللقاءات والحوارات، ثم العودة مع آخر ضوء مساء إلى ماسبيرو لعمل المونتاج لبرنامج «يوميات مراسل حربى»، الذى يذاع فى «صوت العرب»، ثم برنامج «صوت المعركة»، الذى كان قد بدأ تقديمه الزميل أحمد أبوالسعود فى «البرنامج العام» لكنه سافر بعد يومين من الحرب إلى دولة عربية كان تعاقد للعمل فى إذاعتها وقد استثمرت ثقافتى الأدبية فى تطويره فورًا بإدخال فقرات مبتكرة مثل «وشهد شاهد من أهلها» و«قالوا ثم قالوا» و«من أجندة مقاتل» و«الشعر فى المعركة»، وكثيرًا ما كنت ألتقى بعد الانتهاء من المونتاج بالفنانين بليغ حمدى وعبدالحليم حافظ ومحمد رشدى وصلاح عرام وعبدالرحيم منصور أثناء تواجدهم فى «صوت العرب» مع الزميل وجدى الحكيم، وأذكر أن بليغ حمدى قال لى: «إيه رأيك تيجى معانا للاستديو اللى حتسجل فيه وردة أغنية (وأنا على الربابة بغنى) علشان تقف معاها أثناء التسجيل وإنت كده بالأفرول بتاعك وعليه الرمل والتراب وكأنك بتنقلها لميدان الحرب».

ومن ذكرياتى العديدة أننى كنت أسجل لقاء مع أحد الضباط، وفجأة انطلقت مدفعية العدو، فنزلنا إلى الحفر البرميلية المعدة لتفادى القذائف، وقد خرجت من حفرتى لأطمئن على أن «النجرا» خارجها تسجل ذلك، فإذا بالضابط يدفعنى بقوة إلى داخلها، وعندما توقف القصف عاتبته لأنه استخدم العنف فى ذلك، فقال لى: «إنت مش واخد بالك إن كان ممكن شظية واحدة تطير راسك فى لحظة».

وقد انتشر البرنامج حتى ارتبطت به الجماهير، كما اهتم بسماعه المقاتلون فى الجبهة أثناء توقف إطلاق النار، حتى إن بعض رجال الصاعقة- الذين كان قد تم إبرارهم فى عمق سيناء عند المضايق للتصدى لدبابات العدو المتوقع أن تنطلق لمساندة قواتهم فى خط بارليف، وقد ظلوا بعد توقف الحرب خلف خطوط العدو، وعادوا بعد سبعة أشهر- كانوا حريصين على الاستماع إليه، ومن الذين التقيتهم من هؤلاء الأبطال اللواء مجدى شحاتة «الذى كان برتبة نقيب وقتها»، وقال لى إنه ومن تبقى من مجموعته كانوا يستمعون إلى «صوت المعركة» من خلال راديو ترانزستور لا يفتحونه إلا مرة واحدة أثناء إذاعة البرنامج توفيرًا للبطارية، التى يستحيل تعويضها، وهم يتحركون داخل وحول خطوط العدو، كذلك التقيت مع اللواء عبدالحميد خليفة «النقيب وقتها»، وقال لى نفس الكلمات، وذلك إلى جانب لقاءات أخرى بعد الحرب مع اللواء معتز الشرقاوى واللواء نبيل أبوالنجا واللواء عادل مسعود، وغيرهم من رجال الصاعقة الذين قاموا بعمليات بطولية فى حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر.

وقد كانت مفاجأة لى أنهم فى إسرائيل عقدوا لجنة للتحقيق فى أسباب هزيمتهم، ولجنة أخرى لبحث أسباب انتشار البرنامج المصرى المعادى لهم «صوت المعركة» بين الإسرائيليين، الذين يعرفون اللغة العربية، وطبعًا بين الفلسطينيين.