رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد بك الألفى.. بنى القصر.. وسكنه غيره

قصص الأمير المملوكى محمد بك الألفى لا تنتهى، فحياته كواحد من الزعماء التاريخيين للمماليك من الثراء والخصوبة بمكان، بحيث لا تنقضى عجائبها، وكلما أعدت قراءة سطورها اكتشفت جديدًا فيها، وكذلك هذا النوع من الزعماء الذين لا يحدهم طموح ولا تحول بينهم وبين الوصول إلى أهدافهم عقبات. 

كان محمد الألفى واحدًا من مماليك مراد بك، اشتراه نظير ألف إردب من القمح، ولذلك لُقّب بـ«الألفى».. يقول عنه «ميخائيل شاروبيم»، صاحب كتاب «الكافى فى تاريخ مصر»: كان محاربًا جسورًا وسياسيًا ذكيًا، مال إلى استخدام القوة بعنف فى الفترات الأولى من حياته، لكنه بمرور الوقت أصبح مولعًا بالنظر فى العلوم والفلكيات والهندسة، واقتنى كتبًا عظيمة فى العلوم والتاريخ.. كاد الألفى أن يعتزل «لعبة القوة» خلال الفترة التى مال فيها إلى العِلم والتعلم، فاعتكف فى داره واعتزل الأمراء والجند، فعاتبه مَنْ حوله فى ذلك، فعاد إلى سيرته الأولى واستكثر من شراء المماليك وأنشأ قصره الكبير بالأزبكية.. وقد ارتبط هذا القصر بالعديد من الحكايات، حيث كان مسرحًا للعديد من الأحداث الملفتة. 

ترتبط أولى الحكايات بذلك الغرام العجيب من جانب الرجل ببناء القصور، ولك أن تتخيل أن هذا الأمير ابتنى لنفسه قصرًا خشبيًا متنقلًا «فك وتركيب»، يتكون من عدة أجزاء، كان يتم شحنه مع الألفى حيث يحط رحاله، ليقوم البناءون بتركيب أجزائه فى المكان الذى يستقر فيه، ثم يُفرش بالوسائد الحريرية والطنافس المبهرة، وكان للبيت الخشبى سقف مرفوع ونوافذ تفتح وتغلق حسبما شاء وشاء له الهوى.

ابتنى «الألفى» قصورًا أخرى عديدة، لكن يبقى أن قصر «الأزبكية» كان الأشهر على الإطلاق، اختار موقعه على بركة الأزبكية، وأصدر الأوامر إلى عماله بالبناء وإلى أمرائه بالإشراف على البناء، وبعد أن اكتمل بناء الطابق الأول منه- كما يحكى «محمود الشرقاوى» صاحب كتاب «تاريخ مصر فى القرن الثامن عشر»- لم يعجبه، فأمر به فُهدم ثم أعيد بناؤه من جديد على وضع آخر، وطلب له الصناع والأخشاب والمؤن، حتى أوشك الناس ألا يجدوها، وجعل على نوافذه شرائح الزجاج الملون والبلور الصافى، ثم فرش القصر بالطنافس الغالية، وعلقت عليه الستائر والوسائد المزركشة المقصبة.

وما إن انتهى «الألفى» من بناء قصره المشيد حتى وقف أمامه وأخذ ينظر إلى هذا الإبداع الذى صنعه على عينه، وقرر الانتقال إليه والحياة فيه، وجعل منه منطلقًا لعودة جديدة إلى المشهد السياسى المصرى بعد فترة اعتزال، ولم يكن لحظتها يتوقع أن تجدّ فى الأمور أمور.

انتقل «الألفى» لقصره الجديد ومكث فيه لمدة ٢٠ يومًا، وإذا به يفاجأ هو وغيره من أمراء المماليك بنابليون بونابرت وقد وقف فوق رءوسهم، ففروا فى كل حدب وصوب، وفر الألفى كما فر الكبار «إبراهيم ومراد»، مخلفًا قصره المشيد وراءه.. شاهد «نابليون» القصر فأعجبه أيما إعجاب، فاختاره منزلًا له ومقرًا لحكمه، وبدلًا من أن يسترخى فيه «الألفى» ليدبر أمره ويحقق طموحاته، إذا بنابليون يرثه والألفى ما زال حيًا.. ومن هذا القصر أدار «نابليون» معاركه مع المماليك فى مصر والشام، وكذا معركته مع الإنجليز فى الإسكندرية، ومع المشايخ فى الأزهر والديوان، ومع المصريين خلال ثورة القاهرة الأولى، ومن هذا القصر أيضًا خرج نابليون فى جنح الليل وعاد إلى فرنسا لتحقيق حلمه فى حكمها. 

بعد مغادرة نابليون إلى فرنسا لم يرجع قصر الأزبكية المشيد إلى «الألفى»، بل ورث صارى عسكر الحملة الجديد «كليبر» سلفه نابليون فى سكناه، وكانت حديقة القصر أحب مواضع القصر بالنسبة لقائد الحملة الجديد، فيها كانت أسعد لحظاته ولحظة نهايته أيضًا.. فى لحظة النهاية كان «كليبر» يتجول فى الحديقة بصحبة أحد كبير مهندسى الحملة، حين تفاجأ بسليمان الحلبى يدخل الحديقة فظنه «كليبر» طالب صدقة، فقال له: «مافيش مافيش»، لكن الأخير أفلح فى إيهامه بأن له حاجة لن يستطيع غيره أن يقضيها له، فسمح له الجنرال بالاقتراب، وما إن اقترب منه سليمان حتى مد يده اليسرى، وكأنه يريد السلام على كليبر وتقبيل يده، انخدع الأخير ومد يده، فإذا بسليمان يجذبه بقوة نحوه، ويخرج بيده اليمنى خنجرًا خبّأه فى ملابسه ويعاجله بأربع طعنات نافذة، خرّ «كليبر» بعدها يعالج سكرات الموت.. فى ذلك الوقت كان كبير مهندسى الحملة فى الحديقة مع كليبر، فلما سمع صرخاته هرول إليه، وأخذ يصرخ، وضرب سليمان عدة ضربات على رأسه، لكن الأخير عاجله بعدة طعنات سقط على إثرها غارقًا فى دمائه، وسمع حرس القصر صرخات كبير المهندسين فدقوا الطبول وهرولوا إلى الجنرال، فوجدوه منتهيًا.

بعد اغتيال كليبر آل قصر «الألفى» إلى «مينو»، القائد الجديد للحملة، ولم يهنأ فيه الأخير طويلًا، إذ خرجت الحملة بعدها من مصر عائدة إلى فرنسا، وأطلت رءوس المماليك، ومن بينهم محمد الألفى، من جديد على الساحة المصرية، لكن لسوء حظهم ظهرت شخصية «محمد على» على مسرح الأحداث، لتبدد أحلامهم فى العودة إلى حكم مصر.. والغريب أن الوالى الجديد قرر أن يسكن قصر الأزبكية الذى شيده الألفى ولم يهنأ به.

لم يكره «الألفى» أحدًا فى حياته كما كره محمد على، ولم يكن هناك أمير قادر على زلزلة ملك الوالى الجديد سوى «الألفى»، وقد حاول الأخير التنسيق مع الإنجليز لمساعدته إلى الصعود إلى سدة حكم المحروسة، وقد زحف الإنجليز إلى مصر بناء على الاتفاق المبرم بينهما عام ١٨٠٧، لكن القدر لم يمهل «الألفى»، فمات قبل وصول الإنجليز بأسابيع.

أخيرًا انتهت «لعبة القوة» ووجد محمد الألفى بغيته فى القبر، بعد أن عاش سنين يحلم بالعودة إلى القصر الذى شيده فى الأزبكية، ولم يكن يعلم لحظتها أنه يبنى ويشيد ويجود ليهنأ غيره بما بنى.