الشيخة «رقية».. والسر الدفين فى «البنطلون المقدس»
إنه شهر ذى الحجة من عام ١٢٣٣ هجرية الموافق «أكتوبر ١٨١٨»، الشهر الذى يحتضن عيد الأضحى، وهى المناسبة الكبرى التى تعوّد المصريون أن يحتفلوا خلالها بأكل اللحم، فوقتها يصبح حقًا للجميع حين كان يميل الغنى بالأعطيات على الفقير، لكن الظروف خلال ذلك العام لم تكن على ما يرام.
يحكى «الجبرتى» أن المصريين فى ذلك الوقت كانوا يعيشون أزمة اقتصادية ومعيشية طاحنة، فشحّت الغلال وهزلت الأغنام والأبقار والجاموس، وغلت الأسعار بصورة لا تطاق، وكاد السمن يختفى من الأسواق، وزيت القناديل يتوافر بالكاد.. وكان السبب فى ذلك الحرب التى يخوضها محمد على فى الحجاز ضد الوهابيين، والتى كلفت خزانة الدولة أموالًا طائلة، واستنزفت مقدراتها بصورة مزعجة، إذ لم يبق فى مصر كما يقول «الجبرتى» إلا القروش، واختفى الريال الفرانسة والجنيه الذهب «المحبوب».
وذلك شأن المغامرات العسكرية الخارجية دائمًا، إنها قد تمدد سلطان الدولة والوالى على بلاد جديدة، لكن كلفتها دائمًا ما تثقل كاهل الشعب بالمشكلات، لأن الشعب ببساطة هو الذى يتحملها، من خلال ما يفرضه الوالى من ضرائب وما يسحبه من جيوب الناس من أموال من أجل تمويل مشروعه التوسعى.
كان المصريون فى ذلك الوقت يلتمسون البركة من أى شيخ أو شيخة قريبة من الله، ويشتاقون إلى دعوة طيبة من ولى أو وليّة من أولياء الله، علّها تجرى الرزق فى أيديهم، أو ترحمهم من ضريبة، أو ترفع عن كاهلهم أعباءً تتراكم يومًا بعد يوم، وتُيسر لهم أمورهم، وتُحسن أحوالهم.
فى هذه الأجواء لمع نجم شخصية وذاعت شهرة «الشيخة رقية»، الولية التقية الصالحة التى تَحلّق حولها المصريون على اختلاف طبقاتهم يلتمسون منها البركات والدعوات الصالحات.. اعتادت الشيخة رقية أن ترتدى مئزرًا «بنطلونًا» وجلبابًا أبيض، وتحمل سبحة طويلة فى يد وخيزرانة فى اليد الأخرى.
لم يكن أحد يعلم المقلب الساخن الذى يختبئ خلف المئزر أو البنطلون الأبيض الذى اعتادت الشيخة رقية ارتداءه، وكان يمثل ملمحًا أساسيًا من ملامحها كوليّة من الوليات اعتادت التجول فى الشوارع ودخول بيوت الأعيان، حيث يتم استقبالها بأعلى درجات الود والترحاب.
تدخل الشيخة رقية إحدى الدور فيهب الجميع إلى استقبالها.. يتلقاها خدم البيت مرحبين مهللين قائلين: «نهارنا سعيد نهارنا مبارك»، كما يحكى «الجبرتى»، تعلو أصوات الخدم بالهتاف فتتنبه سيدات البيت إلى أن الشيخة رقية حضرت، فيهرولن جميعهن إليها، ويستقبلنها بالبشر والترحاب ويقبلن أيديها.
تأخذ الشيخة رقية مجلسها ثم تبدأ فى تلاوة القرآن الكريم ثم تقوم إلى الصلاة ومعها سيدات البيت ثم تمسك بمسبحتها الشهيرة وتبدأ فى ذكر الله وسط الجمع الذائب فى عشق إيمانها وتقواها، ثم تأخذ فى الدعاء لأهل البيت، ومع ارتفاع الصوت بالدعاء السماوى تهل النفحات الأرضية على الشيخة، من مال وأطايب وأعطيات.
كانت الشيخة تجيد اختيار البيوت التى تقيم فيها شعائرها المقدسة، وأغلبها كان من بيوت الأكابر وذوى الحظوة والمال، التى تزدحم بالسيدات ذوى الحيثية والجوارى الحسان.. واللافت أن هناك بيوتًا كانت تخصص مكانًا لمبيت الشيخة، مثل بيت خليل بك طوقان النابلسى.
فى أحضان الجوارى الحسان كانت ترقد الشيخة رقية داخل بيوت الكبار، وكانت الجوارى سعيدات بالقرب منها ويستدفئن بملامسة جسدها المقدس المغطى بالملابس البيضاء، دون أن تدرى إحداهن ماذا يختبئ أسفل المئزر الذى ترتديه.
ذاع صيت الشيخة فى كل اتجاه، ومن العجيب أن بعض الفقهاء والعلماء كانوا يأوون إلى مجلسها ويحبون الاستماع إليها.. يشهد على ذلك ولع واحد من أشهر علماء ذلك العصر بها، وهو العالم المعتقد الشيخ «تعيلب الضرير»، فقد كان يحب الجلوس إلى الشيخة. وكان مروجًا كبيرًا لها من خلال أحاديثه التى لا تنقطع عن علم الشيخة وزهدها وورعها، ومع كثرة مديح الشيخ العارف بالله لها تزايد جمهورها وأصبح بالآلاف.
ولأن لكل حى نهاية، فقد وافى الأجل الشيخة رقية، لكن موتها كان إيذانًا بتفجير مفاجأة مدوية رنت فى آذان المصريين وظلت تتردد على ألسنتهم لعدة شهور.
ذهبت الشيخة رقية إلى أحد بيوت الكبار كما تعودت، وكان البيت هذه المرة هو دار الشيخ عبدالعليم الفيومى، استقبلها أهله كما تعودوا بأعلى درجات التبجيل والاحترام، وظلت تذكر وتصلى وتقرأ وتدعو كما تعودت مع سيدات البيت، وفى الليل أحست ببعض التوعك فآوت إلى فراشها فى الغرفة المخصصة لها داخل البيت.
لم تكن الشيخة على ما يرام فى الصباح، فقد ساءت حالتها أكثر، وثقل عليها المرض، حاول مريدوها التماس الطب والدواء لها، ولكن دون جدوى، فقد تمكن المرض من جسدها، وآذنت شمسها على الزوال.
ماتت الشيخة رقية، فضج الناس وبكاها الجميع، وبدأ المريدون فى تجهيزها للدفن، تناولتها بعض السيدات للقيام بواجب الغسل، لاحظن وجود شىء ما أسفل وسطها، قبل أن يخلعن عنها ملابسها، ظن أغلب من حولها أنها خبيئة مالية ادخرتها الشيخة لوقت شدة، نزعوا عنها الملابس فإذا بهم يفاجأون، كما يحكى «الجبرتى»، بآلة الرجال «الخصيتين» وما فوقهما، فبهت النساء وتعجبن.
ضج الناس بالخبر، وأخذوا يتناقلونه فى دهشة وسخرية، حتى وصل إلى الشيخ «تعيلب» العالم المعتقد الذى تبناها وبشّر بكراماتها، فطلب من الناس أن يستروا الأمر وأن يستروا «الشيخ رقية» فى مماته، فاستجاب الناس له وكفنوه ودفنوه.
يختتم «الجبرتى» قصة الشيخ رقية بذكر أن من قاموا بتغسيله وتكفينه وجدوا فى ملابسه مرآة وموسى وملقاطًا، يبدو أن الشيخ كان يستخدمها حتى يواصل ستر نفسه بين الحريم، ويقضى لياليه فى بيوت الكبار، وينعم بالمبيت إلى جوار الجوارى الحسان فى الأجنحة التى خصصها لها مريدوه.