جيهان السادات.. امرأة اختارت قدرها
أحب هذه السيدة كثيرًا.. فهى واحدة من الذين يؤمنون ويصدقون أحلامهم الصغيرة، الذين يختارون أقدارهم ويدفعون الثمن دون ضجة أو صخب، الذين تختارهم الأقدار كى يكونوا ملهمين فى لحظات الشدة، الذين يجبر الله خاطرهم فى البدايات والنهايات، فلا يخيب لهم رجاء ولا يتشتت لهم أمل.
عاشت جيهان السادات أربعين عامًا بعد اغتيال زوجها، توفى وهى فى نهاية الأربعينات، وبقيت سنوات وسنوات لترى من قتلوه يمتد نفوذهم ويتشعب وينخر سوسهم فى عظم المجتمع المصرى، حتى تمكنوا من الوصول للحكم، قطعًا حزنت وتألمت وقاومت، لكن خيالها لم يتصور أن يأتى رئيسهم بقتلة فارسها ويكرمهم فى ذكرى أكتوبر، النصر الذى لم يكن لهم فيه ناقة أو جمل، أى حرقة أصابت قلبها؟ أى ظلمة غشيت روحها؟ من يستطيع أن يقدر نكبتها؟ وحده الله المطلع على النوايا والصدور، حفظ لها ما جبر شيخوختها، وما أورق يابس أيكتها، وعادت الأفاعى إلى سجونها، وحصلت على ما لم تتوقع أو تنتظر من احتفاء وتكريم بعد سنوات من الغبن والتجاهل.
هل كانت الصبية ذات الخامسة عشرة تتوقع أن الرجل الذى أعجبت بسيرته ورأت فيه بطلًا سيكون قدرها، سيرتها ومسيرتها؟.. أحبته رغم ظروفه الصعبة، فهو ضابط مفصول من الجيش ورجل متزوج وله ثلاث بنات من زوجته الأولى، إلا أنها أصرت على الارتباط به، لتشاركه كفاحه وصعوده، وبعد أن تحققت نبوءة العرافة لها وأصبحت ملكة النيل، قررت أن يكون لها دور اجتماعى وحضور فى الحياة المصرية، لكن رياح التصحر التى بدأت فى الهبوب على مصر، رأت فى هذه الخطوات الطبيعية مناهضة لفكرها التمييزى والتعسفى الهادف لتفكيك المجتمع المصرى، رغم أن دور قرينات المسئولين لم يكن جديدًا على المجتمع المصرى، حيث كانت الملكة وأميرات أسرة «محمد على» يلعبن أدوارًا اجتماعية فى افتتاح المدارس والمستشفيات، وكانت هذه الأدوار التى تمس مصالح الفقراء من أبناء الشعب تزيد من الولاء للعائلة المالكة.
مع قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ وبطبيعة الحياة العسكرية التى عاشها الضباط الأحرار، تراجع دور زوجات الرؤساء، ولم يكن ذلك تماشيًا مع أعراف المجتمع، ففى الريف تساعد المرأة زوجها فى كل المجالات، وكان تعليم الفتيات قد تم حسم النقاش فيه، حتى إن عالمة مصرية فى الذرة النووية، هى سميرة موسى كانت قد سافرت عام ١٩٤٧ للحصول على الماجستير والدكتوراه من بريطانيا، ولكن استنكار دور المرأة فى السياسة أو الحكومة هو أقرب لروح الثكنة العسكرية، التى ليس للنساء دور فيها.. وجاء نمو جماعة الإخوان المسلمين السرطانى ليروج لفكرة قرار المرأة فى البيت. وارتداء الحجاب كأداة لتمييز المنتمين لهم أو المتعاطفين معهم، أصبح كل ما تفعله «جيهان السادات»- من زيارة للمصابين من الجنود وبناء مشروعات لرعاية الأيتام ومبادرات المشروعات الصغيرة للمرأة، ومشروعات تنظيم الأسرة، وإصلاح قانون الأحوال الشخصية فى مرمى مدفعية الإخوان وأذيالهم، هاجموها لأنها اختارت أن تكمل تعليمها الجامعى، ولم تكتف بالليسانس، بل سعت للحصول على الماجستير وبعده الدكتوراه، وهو ما تحقق، واعتبروا إذاعة مناقشتها الدكتوراه فى التليفزيون الوطنى فضيحة، وساعدهم اليساريون وكل من لم يحب السادات، رغم أن هذه الواقعة يمكن أن تكون حافزًا لمئات الآباء والأمهات والفتيات لتشجيع البنات والسيدات على استكمال تعليمهن الجامعى.
استخدموا ضدها كل أسلحتهم من السخرية إلى التكفير، حتى صكوا الشعار المعيب الذى ينم عن انعدام الوطنية وأن مصلحتهم فوق الوطن «حكم ديان ولا حكم جيهان»، وأى عاقل لا يقبل هذه المقاربة، لكنه الهوى الذى يعمى القلوب قبل الأبصار.
تقلبت حياة جيهان السادات، بين الفقر والغنى، السلطة والقهر، بعد وفاة زوجها مغدورًا، عملت أستاذة بإحدى الجامعات الأمريكية، واستمرت ترعى إرث زوجها، فكانت سفيرته ولسان حاله، وكان قدرها الذى اختارته ودفعت ثمن اختيارها دون ندم.