الأئمة والغيبة والرجعة.. مثلث الدهشة فى «الحرافيش»
ملحمة «الحرافيش» تمثل واحدة من أبدع وأهم روايات الأديب العالمى «نجيب محفوظ»، والمتأمل حكاياتها العشر يلاحظ وجود ظلال وأطياف شيعية متنوعة تظهر على مستويات عدة بداخلها.. فالملحمة تتراوح بين ثنائية الظلم والعدل الإنسانى، وتمثل عائلة عاشور الناجى وسلساله الطرف الباحث عن العدل متسلحًا بالقيمة، فى حين يمثل الفتوات الطرف الظالم المستبد المتسلح بالنبوت وبحنكته ومهارته السياسية.
يبدو الصراع بين «آل الناجى» والفتوات أشبه- مع الفارق فى التشبيه بالطبع- بالصراع التاريخى بين أهل البيت والأمويين، وهو الصراع الذى كان يمثل فيه أهل البيت الطرف الباحث عن استعادة القيم الإيمانية والدولة والديانة ونشر العدل بين البشر، ويمثل فيه الأمويون الطرف الذى يمتلك الحنكة والحيلة السياسية، والمتسلح بالنبوت من أجل فرض حكمه الغشوم على المجموع.
والمجموع فى الحالتين هم «الحرافيش» الذين جربوا عدل الناجى وأبنائه وأحفاده لفترة زمنية قصيرة، مرت كحُلم سريع، سرعان ما خضعوا بعده لنبوت الفتوات.. وهم دائمًا يمثلون الفئة الحالمة بعودة العدل، لكنهم فى المقابل يؤمنون بأن الطرف الأقوى الذى يمتلك الحنكة والنبوت هو الأقدر على الفوز فى أى صراع، ولا بد من الخضوع والاستسلام له.
فى الأدبيات الشيعية تجد استدعاءً مستمرًا لمقولة على بن أبى طالب وهو يصف نفسه فى مواجهة معاوية بن أبى سفيان: «والله ما معاوية بأدهى منّى ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر كنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يُعرف به يوم القيامة، والله ما أستغفل بالمكيدة ولا أستغمز بالشديدة».
الفتوات فى رواية «الحرافيش» ليسوا أقوى ولا أدهى من الناجى الكبير وآله، لأنهم يتقون الله ولا يترخصون فى الغدر والكراهية والفجر والكيد، فهذه القيم اللا إنسانية لا تستقيم مع تركيبة «الناجى»، الرجل الذى يملك القوة، لكنه لا يستخدمها فى الشر والبطش.. لو أنك راجعت المواضع الدالة على القيم التى آمن بها عاشور الناجى وآله لوجدت أن آخرها القوة، فالقوة متوافرة لديهم بوفرة لكنها ليست الأساس فى الفتونة، فـ«الفتونة أخلاق» كما كان يردد أبناء وأحفاد الناجى الكبير.
ثمة نوع من المحاكاة التى قد تكون مقصودة أو غير مقصودة ما بين السيرة العاشورية وسيرة أئمة الشيعة، بدءًا من الإمام الأول على بن أبى طالب، رضى الله عنه، وبغض النظر عن المقصودية أو عدمها فإن الثقافة المصرية ألقت بظلها على العقل الإبداعى لنجيب محفوظ، وهى الثقافة التى ترسم صورة شعبية لعلى بن أبى طالب تمزج بين القوة والعدل.
فثمة عدد من الحكايات المستقرة فى الوجدان الشعبى حول قوة على بن أبى طالب، تختلط فيها الحقيقة بالخرافة، وهى فى مجموعها تؤكد توافر نوع من القوة الأسطورية لديه تجعله مرة يفتح بابًا ينوء به ١٠ رجال، وتمكنه من جندلة أعتى الفرسان منذ أن كان شابًا صغيرًا، وقدرته على ارتداء لبس الصيف فى الشتاء القارس وغير ذلك، وهو فى الوقت نفسه عالم كبير بأمور الدنيا والدين، آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب.
لم يبتعد نجيب محفوظ وهو يرسم شخصية عاشور الناجى عن مجموعة الملامح الشعبية التى تميز صورة على بن أبى طالب فى أفئدة وعقول المصريين.. فقد أوتى عاشور من القوة ما يخيف به أكبر الفتوات، وأوتى من الحكمة وصفاء السريرة الكثير، بسبب نشـأته فى حجر الحكيم الكبير الشيخ عفرة زيدان.
تقاطعات أخرى يمكن أن ترصدها بين السيرة العاشورية وسيرة أئمة الشيعة الاثنى عشرية، من بينها الربط بين الأصل والفرع، فأصل أئمة الشيعة هو على بن أبى طالب «الإمام الأول»، وزوجه فاطمة، رضى الله عنه وأرضاها، وبالمثل كان عاشور الكبير «الناجى» هو أصل سلسال آل الناجى الذين توارثوا الفتونة بمعناها الذى يمزج بين القوة والعدل كابرًا عن كابر.
وإذا كان عدد أئمة الشيعة ١٢ إمامًا، فقد كان عدد الفتوات من عائلة الناجى ٩ فتوات، يأتى على رأسهم عاشور الأول، ثم شمس الدين الناجى، ثم سليمان الناجى، ثم سماحة الناجى، ثم وحيد بن سماحة الناجى، ثم جلال الناجى بن عبد ربه الفران وزهيرة الناجى، ثم سماحة الثانى بن شمس الدين بن جلال الثانى «جلال عبدالله» بن جلال الناجى، ثم فتح الباب بن شمس الدين بن جلال الثانى بن جلال الناجى، ثم عاشور بن ربيع بن سماحة الثانى بن شمس الدين بن جلال الثانى «جلال عبدالله» بن جلال الناجى.
فكرة الغيبة كجزء من التراث الشيعى كانت حاضرة أيضًا فى السيرة العاشورية.. فالشيعة «الاثنى عشرية» يؤمنون بأن الإمام الأخير «محمد بن الحسن العسكرى» قد غاب واختفى وأنه سيعود إلى الحياة ثانية ليملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا، والأمر نفسه تجده فى مواضع عديدة من رواية «الحرافيش»، فقد اختفى الناجى الكبير فجأة دون أن يدرى أحد أين اختفى، ومنذ غيبته مثّل حلم «عودة العادل الكبير» الحلم الأكبر للحرافيش، الذين كانوا يرددون أن الناجى سوف يعود ليملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا.
انظر هذا الحوار بين سحر الداية وفتح الباب أحد أحفاد الناجى الكبير:
وراحت تحكى له قصة عاشور، عودته، مقامه فى دار البنان، فتونته، عهده، حتى امتلأت عينا الصبى بالوجد والدموع فقالت سحر:
- وقد اختفى ذات يوم وطال اختفاؤه حتى آمن الناس بموته.. أما الحقيقة التى لا شك فيها هى أنه لم يمت.
فسألها فتح الباب بدهشة وأمل:
- حتى الآن يا جدتى؟
- وحتى الغد.
- ولمَ لا يرجع؟
- علم ذلك عند الله وحده.
- قد يرجع فجأة؟
- لِمَ لا؟!».
ثنائية الغيبة والرجعة كانت حاضرة فى رواية «الحرافيش» تمامًا مثلما كانت حاضرة فى التراث الشيعى.. فهل يمكن القول إن تأثر نجيب محفوظ بهذا التراث هو مجرد تأثر ثقافى أم أن المسألة أبعد من ذلك؟.