إنهم السادة يا سادة.. «4» الإمام أحمد بن حنبل
يرميه الجهلاء بتهمة التشدد وأصبح المتمسك بالحق متهما بأنه "حنبلي" في حين يرى علماء الفقه أن في الفقه الحنبلي متسع لنظام المعاملات، يمتاز بالسهولة واليسر وتحقيق المصلحة للناس، غير أن الإمام أحمد كان متشددًا جدًا فيما يتعلق بالعبادات إذ كان يرى أن العبادات حق لله على عباده، وهذا الحق لا يجوز مطلقًا أن يقبل مسلم بالتساهل أو التهاون فيه.
والحق أن للإمام أحمد وما يراه البعض غلوا وتشددًا منه دور كبير في حفظ الدين ودحض القول بخلق القرآن الذي قال به بعض المعتزلة خلال العصر العباسي ولولا ثبات الإمام أحمد وتمسكه بموقفه لتغير في الدين شئ كثير ولكن الله ثبته على الحق، فثبت من خلفه خلق كثير فصار بموقفه وثباته على الحق واحد من أهم حراس العقيدة واستعمله الله ليكون أداة لحفظ الدين.
توفي والده قبل مولده فتولت أمه مهمة تربيته ورعايته وسعت إلى تعليمه علوم الدين على يد عدد من كبار فقهاء عصره بعد أن أتم حفظ القرآن الكريم وفي هذا يقول: "حفظتني أمي القرآن وأنا ابن عشر سنين وكانت توقظني قبل صلاة الفجر وتحمي لي ماء الوضوء في ليالي بغداد الباردة وتلبسني وتذهب بي إلى المسجد لبعد بيتنا عنه ولظلمة الطريق".
سعى بن حنبل لطلب العلم في مشارق الأرض ومغاربها فسافر إلى مكة والمدينة والحجاز واليمن والعراق وفارس وخراسان والجبال والأطراف والثغور، واجتهد بن حنبل في طلب العلم حتى ورد عنه أنه ما بلغه حديث إلا عمل به وما عمل به إلا أن يحفظه.
يروى أنه سأل حاتم الأصم: كيف السلامة من الناس؟ قال: تعطهم ولا تأخذ منهم، ويؤذونك ولا تؤذهم وتقضي مصالحهم ولا تكلفهم بقضاء مصالحك، فقال له: "ولكنها صعبة" فأجابه: "وليتك تسلم".
جلس الإمام للتدريس في بغداد في نفس السنة التي توفي فيها الإمام الشافعي وكان بن حنبل قد ألتقى الشافعي في الحرم الشريف وأخذ عنه ويقال إنه ظل أربعين عامًا لا ينام دون أن يدعو للشافعي، يروى أنه سئل: "كم بيننا وبين عرش الرحمن؟" فقال: "دعوة صادقة من قلب صادق"، كما ورد عنه قوله: "تلين القلوب بأكل الحلال".
حدث أن الخليفة المأمون قال بأن القرآن الكريم كتاب الله عز وجل مخلوق واستمال لرأيه هذا عددا من العلماء بينما ضغط على آخرين منهم فقبلوا بما قال به الخليفة ولم يثبت على رأيه سوى الإمام أحمد ومحمد بن نوح.
فسيقا إلى المأمون ليمتحنهما فيما يقول به غير أن الله كان قد استجاب لدعائهما فمات المأمون قبل أن يصلا إليه، ثم ما لبث أن مات محمد بن نوح رفيق الإمام في المحنة وكان قد أوصاه قبيل وفاته بقوله: "أنت رجل يُقتدى به وقد مدَّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتقِ الله واثبت لأمر الله".
فثبت الإمام أحمد وواجه في سبيل رأيه هذا بعد المأمون كلا من الخليفتين المعتصم والواثق، إلى ان تولى المتوكل الخلافة فمنع الخوض في هذه المسألة ورد للإمام اعتباره فعاد لمجلسه يعلم الناس أصول دينهم.