أوضح أن أوتار صوته اختصته ليكتشف بداخله حاسة جديدة
سر بكاء الشاعر إبراهيم داود عندما استمع لأول مرة للشيخ مصطفي إسماعيل
في حلقة، أمس السبت، من مسلسل "القاهرة كابول" يدور حوار بين حسن" والذي يجسد دوره الفنان نبيل الحلفاوي داخل المقهى وأحد باعة شرائط الكاسيت المسجل عليها القرآن، يسأل حسن البائع معاك شرايط لقراء مصريين، فيجيبه عندي قراء لكن مش مصريين، فيرد حسن: "والله يابني ما يمزجني إلا المنشاوي ومصطفي إسماعيل والشيخ رفعت طبعا، تلاوة طعم تاني تخش القلب تقوم الروح تسمع وتفهم وتنسجم وتخشع. هنا دولة التلاوة".
يكشف هذا الحوار الذي دار في مسلسل القاهرة كابول، عن المعني الحقيقي لمقولة نزل القرآن في مكة وقرئ في مصر، أو ما اصطلح علي تسميته بــ"دولة التلاوة" وهي جزء لا يتجزأ من الهوية والشخصية المصرية، فمصر دولة التلاوة، بلد محمد رفعت والمنشاوي، وعبد الباسط عبدالصمد، ومصطفى إسماعيل، والبنا، والحصري، والشعشاعي، والطبلاوي وغيرهم الكثيرين، من ألحان السماء الذين حملوا القرآن في قلوبهم وليس فقط ألسنتهم وحناجرهم لمشارق الأرض ومغاربها .
- ارتباط بعض الشعائر الدينية بالنغم خاصية مصرية خالصة
وفي كتابه "طبعا أحباب..جولة في حدائق الصادقين" والصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، يذهب مؤلفه الشاعر إبراهيم داود إلي أن ارتباط بعض الشعائر الدينية بالنغم خاصية مصرية خالصة، تشهد عليها آلات العزف في معابد أجدادنا الفراعنة، وأيضا حناجر الإنشاد التي لم تكف عن الشدو منذ خلق الله نهر النيل بعذوبته وطيبته، وزرع حوله فلاحين وجدوا في القرآن فرصتهم العظمي لبث أشواقهم وارتباطهم بالخالق.
ويحكي الشاعر إبراهيم داود عن بداية تعلقه بصوت الشيخ المقرئ مصطفي إسماعيل: ذات ليلة ممطرة وأنا مجند في قوات حرس الحدود، كنت عائدا من إجازة سيتم ترحيلي بعدها، جلست في مقهي ضيق جدا في "الأنفوشي" بالإسكندرية يوشك علي الإغلاق وأحسست أنهم يريدون التخلص مني للالتفاف حول تسجيل "حلو" للشيخ مصطفي إسماعيل.
وتابع لم أكن مستعدا من داخلي للسماع٬ وكنت مشغولا بالمصير الغامض لمجند مؤهلات في حرس الحدودن وبمرض أمي، ولكن حاجتي إلي الألفة دفعتني لطلب الجلوس مع الرجال الثلاثة الذين يجلسون إلي صاحب المقهي الذي من الصعب أن تظهر رقته من وجهه الحاد، وأدعيت أنني من عشاق الشيخ مصطفي إسماعيل فقبلوني بفتور مهين، وأغلقوا نصف الباب الصاج ووضعت الشيشة بيننا، وبدأت سورة "مريم" من :"يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا" الآية (12)، تظاهرت بالاستمتاع رغم الصوت الذي بدا لي مقفولا، ثم حدث ما حدث بعد قليل.
- أوتار صوته اختصتني لاكتشف بداخلي حاسة جديدة
يتابع الشاعر إبراهيم داود، فتحت السماء أبوابها وأصبح المقهي الضيق واسعا وأحسست أنني في عالم آخربعدما سحب صوته في مناطق خارج كل السياقات في “مريم”، وفوق "شواشي" مشاعري التي لم يلمسها نغم من قبل وراح يعزف الشيخ وكأنني مخدر، وكأن أوتار صوته اختصتني لاكتشف بداخلي حاسة جديدة بددت مخاوفي من الترحيل، وجعلت دراويشه الذين أجلس بينهم أهلي الذين أحبهم ولا أتحدث إليهم، وشيئا فشيئا بدأت أحس الدماء تصعد إلي رأسي، وزاد من إحساسي هذا الجمهور الذي يستحسن التلاوة "علي المقام نفسه" داخل الكاسيت ومن صحبتي، وبدأت أحس معني المفاجأة، فغالبا ما يحاول الواحد منا ضبط صوته مع المقرئ أو المغني، ويفترض مسافات غير دقيقة في محاولته للحاق بصوته.
ففي كل آية (حتي لو أعادها) أفشل في تتبعه بسبب "فتونة" خارقة وذكاء ولماحية، تجعل صوته مثل لاعب السيرك الذي يقدم "نمرة" غير تقليدية تجعلك تشهق كل لحظة من خطورة المغامرة، ومن تلك الثقة التي يجلس خلفها لاعب تسعده هذه الشهقة وتجعله مزهوا بنفسه وهو يرد علي إعجابك الشديد به٬ وكأن هذا بعضا من واجبك تجاهه. حتي دخل في رحاب "الحاقة": الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)٬ قرأها للمرة الأولي وكأنه يقول "السلام عليكم"٬ ثم راح يعيد فيها ويزيد ليصعد قلبي معه ويهبط٬ وفجأة أجهشت في بكاء غزير لا أعرف سببه ولم أتمكن من إيقافه، وبدأ الرجال حولي يحسون ذنبا ما تجاهي ويتقربون مني بحنو وعطف نادرين، وأنا في حالة لم أستطع حتي الآن تفسيرها، ومن لحظتها وأنا مسكون بصوت الشيخ مصطفي إسماعيل أعظم من أحس كلام الله ، وجعله وكأنه نازل من السماء ساخنا (حالا) كما قال لي الأستاذ نجيب محفوظ.