عصام زكريا يكتب.. اقتباس مع وقف التنفيذ
مع بداية عرض مسلسل «نجيب زاهى زركش»، من بطولة النجم يحيى الفخرانى وتأليف عبدالرحيم كمال عن فكرة ليحيى الفخرانى، ثارت الشكوك حول اقتباس المسلسل من الفيلم الإيطالى الشهير «الزواج على الطريقة الإيطالية»، الذى لعب بطولته كل من صوفيا لورين ومارشيللو ماستوريانى وأخرجه فيتوريو دى سيكا عام ١٩٦٤.
مع مرور الحلقات تأكدت شبهة الاقتباس، وهو ما أكده مؤلف العمل، مع الإشارة إلى أنه استند إلى المسرحية المأخوذ عنها الفيلم الإيطالى، للكاتب المسرحى المعروف إدواردو دى فيليبو، التى تحمل اسم «جوازة طليانية»!.
مبدئيًا اسم المسرحية هو «فيلومينا مارتورانو» على اسم البطلة، وسوف نتكلم عن أهمية العنوان واسم البطلة لاحقًا، وقد تم تغيير العنوان فى الفيلم إلى «الزواج على الطريقة الإيطالية»، أما عنوان «جوازة طليانية» فهو الاسم الذى عُرفت به نسختها المعربة فى مصر، وقد عرضت النسخة المعربة فى مصر أكثر من مرة، والمدهش أن يحيى الفخرانى لعب بطولتها أمام دلال عبدالعزيز على المسرح القومى عام ١٩٩٨ من إخراج الإيطالى ماريانو ريجيلو، ومن الطريف أن دلال عبدالعزيز لها حوار تليفزيونى منذ عدة أعوام تحدثت فيه عن المسرحية، وقالت إنها والفخرانى عرضا المسرحية فى إيطاليا وفازا هناك بجائزة أفضل «كابل» أو ثنائى مسرحى عن دوريهما فى المسرحية.. بل إن النسخة التليفزيونية من المسرحية التى أخرجها جمال عبدالحميد متوفرة بالفعل على «يوتيوب».. يعنى ليست هناك فرصة لإخفاء الاقتباس، كما أن الأصل الذى يستند إليه ليس الفيلم السينمائى، ولكن الأصل المسرحى نفسه الذى لعب بطولته يحيى الفخرانى نفسه منذ ثلاثة وعشرين عامًا.
ومن الواضح أن عبدالرحيم كمال، كاتب السيناريو، قد شرع فى كتابته بناء على طلب من الفخرانى، كما حدث عندما عهد إليه بتحويل «الملك لير» إلى مسلسل «دهشة».
على أية حال، مع توالى الحلقات يتضح أن هناك شيئًا واحدًا تم تغييره عن النص الأصلى، وهذا التغيير الذى يبدو صغيرًا وغير مؤثر يقلب فكرة المسرحية ومعناها تمامًا.
ذكرت أن اسم المسرحية الأصلى هو «فيلومينا مارتورانو»، على اسم البطلة، العاهرة، التى ترتبط بعلاقة حب مع أحد السادة الأثرياء لثلاثة عقود، ولا يستطيعان الزواج رسميًا بسبب مهنتها وأصله الأرستقراطى، ثم تدعى ذات يوم أنها مريضة للغاية وتطلب منه الزواج منها قبل أن تموت، وبعد أن يفعل ذلك يكتشف أنها كانت تدعى المرض، فيحضر محاميه ويبطل عقد الزواج، ولكن فيلومينا تخبره بأن لديها ثلاثة أولاد، وأن أحد هؤلاء الأولاد ابنه، فيحاول الرجل جاهدًا أن يعرف أيهم ابنه، ولكنه يفشل، وفى النهاية يكتشف أنه لم يزل يحب فيلومينا فيتزوجها ويقبل الإخوة الثلاثة باعتبارهم أبناءه، ويكف عن محاولة معرفة أيهم ابنه.
كما هو واضح فإن الشخصية النسائية هى البطلة الحقيقية للعمل، ليس فقط لأن المسرحية تحمل اسمها، ولكن لأنها الشخصية الأقوى، المحركة للأحداث، التى تتمحور حولها كل الشخصيات، أما الرجل فأشبه بالمتفرج أو العاشق الضعيف الدائر فى فلكها. يتضح ذلك أيضًا بداية من اسمها: فيلومينا، اسم إغريقى عريق، له عدة معان، كمعظم الكلمات الإغريقية، منها «الصديقة»، «الحبيبة»، العقل، الإصرار، القوة، الشجاعة.
فى المسرحية تنجح هذه العاهرة الفقيرة فى فرض شخصيتها القوية على الجميع: حبيبها وأولادها والمجتمع الطبقى المتزمت ظاهريًا، المنافق أخلاقيًا، وهى نموذج بدئى للمرأة ربة الأسرة التى بدأت بها المجتمعات البشرية، عندما كان الأطفال ينسَبون لأمهم، وكانت الأم هى المحور الذى تدور حوله العائلة، بينما الرجال مجرد صيادين يأتون بالطعام ويمكن للمرأة طردهم متى شاءت.. فيلومينا أشبه بملكة النحل، وبالربات الأوائل، إيزيس وعشتار وفينوس، وبنموذج العاهرة المقدسة الموجود فى كل الحضارات القديمة.
ومثل المسرحية المأخوذ عنها يدور الفيلم الإيطالى «الزواج على الطريقة الإيطالية» حول شخصية فيلومينا، وتلعب الدور صوفيا لورين، التى ظلت لعقود طويلة نموذجًا حيًا لهذه المرأة الأسطورية، التى تجسد الأنوثة والأمومة فى الوقت ذاته، ويتفنن الفيلم فى إبراز كل من أنوثة وأمومة الشخصية، ويساهم فى صنع أسطورة بطلته صوفيا لورين، بحيث يمتزج الاثنان معًا.
لكن فيلومينا فى «نجيب زاهى زركش» لا وجود لها، فبعد حلقتين لعبت فيهما هالة فاخر دور «شفيقة» خليلة زركش، تموت بالفعل، ويحتل زركش بقية الحلقات بمفرده، مستغرقًا غارقًا فى البحث عن صلبه من بين الأبناء الثلاثة، ويتم الاكتفاء بوجود شفيقة كشبح أو أحلام تراوده لتدله على الطريق، ويحمل عنوان المسلسل بوضوح هذه الفكرة من خلال الاسم الثلاثى الفخم لبطله وانفراده بالبطولة بعد مجرد حلقتين.
إذا كان الموضوع الأصلى للمسرحية هو تمجيدًا لقوة الأمومة والأنثى، فإن «نجيب زاهى زركش» هو مرثية بكائية للرجل الذى تتمثل سلطته فى مدى إخلاص نسائه له وفى «الحسب والنسب»، الذى ورثه ويورثه لأبنائه، ويجب أن نتذكر هنا أن الملاحم والأساطير والميلودراما المصرية تتمحور غالبًا حول فكرة جدارة الأبناء بنسبهم إلى آبائهم الشرفاء. ولو كان بإمكاننا أن نتخيل أن قصة فيلومينا تدور فى المجتمع العربى، فسوف نكتشف على الفور أنها ستتحول إلى محاولة الابن الأصلى لإثبات نسبه لأبيه الأرستقراطى، كما نجد فى سيرة عنترة بن شداد أو أبى زيد الهلالى وغيرهما من الأعمال العربية.
لكن نجيب زركش، كما ذكرت، هو أشبه بصورة لرجل قديم يتأمل نفسه فى المرآة، عبثًا يبحث عن صورته القديمة، بينما يهتز العالم من حوله، وهو لا يفكر سوى فى النسب وتحليل الدى إن إيه!.