«الدستور» فى موقع حادث قطار طوخ.. وقائع ما جرى للصائمين بين قضبان السكة الحديد (معايشة)
وكأن مدفع الإفطار قد انطلق قبل موعده بنحو 4 ساعات على الأقل، لم يكن ذلك مشهدًا سينمائيا، لكنه كان المشهد الأول لحادث قطار طوخ رقم 949 سياحي، الذى كان متجهًا من القاهرة إلى مدينة المنصورة، إذ بدأ بصوت يشبه الانفجار الكبير في تمام الساعة 1:54 ظهرًا وارتفع الغبار هناك لنحو نصف كيلو متر بالأعلى.
وقع الحادث على بعد نحو نصف كيلو من محطة قطار سندنهور (الواقعة بين مدينتي طوخ وبنها)، مخلفًا جثامين وأشلاء وفيات كان يصعب النظر إليها، حيث حاول أهالى القرى المجاورة تغطيتها بملاءات على القضبان وعلى جانبي القطار الذى كان كناقل للموتى، وكانت سيارت الإسعاف والإنقاذ قد وصلت للتو وبدأت فى الإنقاذ ونقل المصابين والوفيات.
فى نفس الوقت أتت مجموعة من الشباب بعدة "صواريخ" لقطع أجزاء من العربات المقلوبة على جانبها واستخراج المصابين العالقين وكذلك الموتى ممن كانوا داخل تلك العربات، فيما علق نحو 3 متوفين تحت العربات لم يتمكن الأهالي وفرق الإنقاذ من إنقاذهم لأنه كان يتطلب رفع تلك العربات بأوناش بشكل كامل.
ما الذى حدث؟
بحسب كاميرات المراقبة فى الكافتيريات المطلة على موقع الحادث فى الناحية الأخرى من الطريق، وعززه أكثر من 3 ناجين وشهود عيان حضروا اللحظات الأولى للحادث تحدثوا لـ"الدستور"، فإن القطار فى منتصفه تم تحويله من قضيب لآخر إيذانًا لدخول محطة سندنهور، ولكن لأنه كان على سرعة كبيرة فقد فلتت عجلات البوجي (التى تحمل عربات القطار) وخرجت عن القضبان ومالت يمينًا ويسارًا تم انفصلت 4 عربات انقلب منها اثنين، إضافة إلى اثنين آخرين منها عربة الدفع الخلفية (الباور) التى كانت ممتلئة بالسولار، وسال الكثير منه وكانت مخاوف هناك كبيرة بأن تنفجر ولكن لم يحدث.
السيناريو الأسوأ
لمن لا يعرف، يمر خط السكة الحديد من القاهرة إلى بنها بموازاة طريق مصر إسكندرية الزراعي، ويفصل بين الطريق الأسفلتي وقضبان السكة الحديد بنحو 10 أمتار سور مبني من الطوب الأسمنتي بارتفاع مالا يقل عن مترين (وهو الذى جعل الأمر سيئًا وتسبب فى تأخير عمليات الإنقاذ لأنه كان لابد من تحطيم أجزاء منه لنقل المصابين والموتى والناجين)، يمر بجوار خط السكة الحديد مباشرة مصرف بعمق نحو 5 أمتار وعرض مالا يقل عن 10 أمتار، وكأن الله أنقذ بيديه عربات القطار التى انفصلت من السقوط فى هذا المصرف والتى كانت ستضع الحادث فى سيناريوهات أسوأ فيما يخص الإنقاذ والعثور على راكبي القطار.
قرى الكرم والجدعنة
يطل على الطريق من ناحية الطريق الزراعي بدءًا من مدينة طوخ وحتى نفق سندنهور ما لا يقل عن 5 قرى أبرزها كفر الحصة وفرسيس وسندنهور، تعدادهم يصل لإجمالي 30 ألف نسمة، وهى قرى ريفية يعمل أهلها فى الزراعة إلى جانب استغلال الكثير منهم لموقعهم المطل على الطريق وأنشأوا كافتيريات ومطاعم ومقاهي لاستضافة المسافرين خلال رحلاتهم الطويلة على الطريق الزراعي، ولم يكن يتخيل هؤلاء أنهم سيكونون أول من يعيشوا لحظات الموت والرعب فى حادث القطار.
ما إن انتهت عمليات الإنقاذ التي كان أهالى تلك القرى أول من قاموا بها، إلا وأتى آخرون من تلك القرى يحملون صناديق وزجاجات المياه والعصائر والأطعمة للمصابين وفرق الإنقاذ والأهالي وقوات الأمن الموجودين بمسرح الحادث، حاولوا عبر لوادر عملاقة أن يدخلوها لنقطة الحادث فى محاولات لتحريك العربتين المقلوبتين لانتشال الجثث منهما، لكن الأمر كان صعبًا للغاية، وانتظروا أوناش السكة الحديد التى قاربت على الوصول لكن الزحام المروري عطلهم بعض الوقت.
مع انطلاق مدفع الإفطار كانت نساء قرية كفر الحصة تصطف خلف بعضهن يحملن الطعام المتواضع رافعين شعار "الجودة بالموجودة" وقدمن لكل الموجودين، إلى جانب استضافة الكافتيريات المطلة على الطريق عدد من المغتربين.
تحدثت "الدستور" مع وديع فوزي، صاحب إحدى الكافتيريات والذى شارك أهل منزله فى إطعام الكثير من الموجدين، وأكد أنه لم يفعل سوى الأصول والواجب، وأنهم كانوا يعتادوا حوادث الطرق، لكن حادث القطار كان مأساويًا للغاية.
سألت "الدستور" عن السيدة صاحبة الخمار الأبيض والجلباب الأسود التي كانت تحمل صينية بها صنوف الطعام وتقديمها لرجال الأمن وتداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فأكد أحد أهالي قرية كفر الحصة أن اسمها "هنية" وزوجها الاستاذ زكي عيسى، لافتين إلى أنهم من أسرة ومنزل متواضع للغاية، فالزوج يعمل في مصنع حبوب وأعلاف، ولديهما 4 أبناء، لكنهم قالوا "الجودة بالموجودة".
زكي، لم يكن فى المنزل خلال حادث القطار ولكنه تلقى اتصال هاتفي من زوجته تبكي وتبلغه بما جري، والمشهد المروع التى شاهدته، خاصة أن ظروف عمله فى صيانة مصنع للإعلام بالشرقية تجعل إجازته الخميس والجمعة فقط من نهاية الأسبوع، واتفقا أن تعد الزوجة (هنية) طعام من المنزل وتخرجه لإفطار الموجودين فى مسرح الحادث.
يقول زكي فى اتصال هاتفي لـ"الدستور" أن زوجته قامت بالواجب وأكثر كأنه موجود معهم فى القرية، وأن الطعام الذى خرج من منزله من فضل الله وكرمه ونعمته، وأنهم لو كانوا يملكون أكثر من ذلك لقدمه.
يوضح زكي أن لديه 4 أبناء أكبرهم أية طالبة فى كلية التربية بطنطا وتركب القطار إلى جامعتها، لافتاً أنه الحزن انتابه إثر معرفته بالحادث.
مشاهد فيلم رعب
صراخ طفلة رضيعة كان مميزًا وسط الصراخ والعويل من المصابين والناجين، حملها أحد الرجال الذى حاول التوصل لأهلها إن كانوا أحياء أو حتى مصابين أو وفيات وتم تسليمها للمسؤولين فى الحادث، فيما حاولت بعض السيدات يحملونها ويطمأنونها وكأنهم أصبحوا بمثابة الأم والأب لها فى تلك اللحظة.
فى نفس التوقيت لم يحاول أحد الناجين البحث عن ذراعه الذى فقده فى الحادث، فخرج مهرولًا من جانب القطار، وأسعفه الأهالي وساعدوه في ركوب سيارة الإسعاف.
وفى الأثناء، أتى أحد الشباب حاملًا بقايا متعلقات بعض ممن توفوا فى الحادث والذى اتضح أن بعضهم مجندين وضباط، وكان يبكى بشدة عندما قام بتسليم الأوراق والصور وبطاقات وكارنيهات الهوية لمسؤولي الأمن والقوات المسلحة الموجودين ويقول إنه مجند وتلك الأوراق ترجع لأذون إجازة لبعضهم وأنه يشعر بهم الآن.
بين تلك الصور التى تمكنت "الدستور" من التقاطها صور قديمة لمجموعة عسكرية بها ضباط ومجندين وكان مدونًا فى الخلف أسمائهم ورتبهم من الضباط إلى المجندين وتعود تاريخ تلك الصور لشهر مايو من العام 1976، وكأنها تقول "نحن رفقة حتى الموت".