محمود خليل يكتب: ليلة الرؤية.. ليلة ينطلق فيها «النسوان».. ويسيطر «المحتسب»
لا تجد وصفًا أكثر تفصيلًا لهذا الحدث الخالد فى تاريخ المصريين من الوصف الذى قدمه «أوليا جلبى» فى كتابه «الرحلة إلى مصر والسودان وبلاد الحبش».
إنه حدث استطلاع هلال شهر رمضان، الذى تمتد فيه خطوط الزمان وتتصل داخل المكان الواحد الذى تشغله مصر على خريطة الدنيا، لتتواصل طقوسها جيلًا بعد جيل. فما يحكيه المؤرخون عن احتفال المصريين برمضان أيام الفاطميين لا يختلف كثيرًا عمَّا يحكونه عن أيام المماليك، وما تواصل من طقوس هذه الاحتفالات فى عصر العثمانيين أكثر مما انقطع من الموروث عن العهود السابقة.
إنها مصر التى عرفت كيف تنحت لنفسها شخصية خاصة، تتجلى صورها فى الطقوس الفريدة التى احتفظت بها عبر التاريخ، وهى تتفاعل مع أجمل أيام الله، أيام وليالى رمضان، وهى الأيام والليالى التى تتصدرها «ليلة الرؤية».
من إحدى شرفات العصر العثمانى سنحاول استعراض مباهج ليلة رؤية هلال رمضان كما تجلت فى حياة المصريين أواخر القرن السابع عشر الميلادى، ونشاهد صورها وأحداثها، كما حكاها أحد الرحالة الأتراك الذى وفد إلى مصر وتجول فى شوارع وأحياء القاهرة خلال الفترة من 1672- 1680.
على مدار ثمانى سنوات قام «أوليا جلبى» برحلة إلى كل من مصر والسودان وبلاد الحبش، قضى أغلب هذه السنوات فى القاهرة، وسجل فى كتابه: «الرحلة إلى مصر والسودان وبلاد الحبش» الصور التى شاهدها بالمحروسة «وصف يطلق على القاهرة»، وأخصها ما يتعلق بليلة الرؤية.
ما يحكيه «جلبى» فى كتابه يعود بنا إلى الوراء لما يقرب من ثلاثة قرون ونصف القرن من الزمان، لنصل إلى أواخر القرن السابع عشر، أى بعد دخول العثمانيين مصر بما يزيد على قرن ونصف القرن من الزمان، وكانت الخلطة الثقافية المملوكية العثمانية قد تلاقحت عناصرها بشكل كامل فى حياة المصريين، لذا كانت مشاهد ليلة الرؤية تعكس القديم المملوكى والجديد العثمانى فى الوقت نفسه.
أكثر ما يلفت النظر فيما يحكيه «أوليا جلبى» عن ليلة الرؤية هو وصفه الموكب الخالد لاستطلاعها بـ«موكب النسوان»، وأشار إلى أن هذا الوصف نحته أهل القاهرة أنفسهم، والسبب فى ذلك أن النساء كن يعصين الرجال إذا لم يأذنوا لهن بمشاهدة الموكب ويخرجن، ولم تكن المسألة تحتاج إلى معصية الزوج، فأغلب الأزواج كانوا يسمحون بذلك ابتهاجًا بالشهر الكريم.
لم تكن المرأة حينذاك تجد متنفسًا للخروج سوى عند زيارة المقابر وأضرحة أولياء الله الصالحين، أو لحضور موكب رمضان والاندماج فى حالة البهجة والفرحة التى تعوَّد المصريون أن يذوبوا فيها كل عام. يقول «جلبى»: «وخلاصة الكلام أن بعض الرجال لا يمكن أن يسأل أهل بيته قائلًا: أين كنت؟ إنها فرحة عجيبة، فجميع أهل مصر تشملهم الفرحة الغامرة بمقدم ليلة رمضان الشريفة، ويقيمون لها فاصلًا جميلًا من الترحاب والاستعداد».
كانت النساء يهرولن إلى حجز أماكن المشاهدة قبل ليلة الرؤية بأسبوع أو أكثر، وكان ذلك يتم عبر التنسيق مع الأهالى الذين يسكنون بيوتًا تطل على شوارع يمر عليها الموكب، وقد يصل الأمر إلى حد استئجار دكاكين بهذه الشوارع بأجرة تتراوح يوم الرؤية بين قرش إلى 15 قرشًا.
إنها الليلة التى تأخذ القاهرة فيها زخرفها وتتزين لاستقبال الشهر الكريم. «فتظل الأسواق والمتاجر والمحال مفتوحة حتى الصباح وتوقد آلاف الآلاف من القناديل، وتزدان المدينة، وتصبح فى أبهى صورها، وكل إنسان يعرض متاعه أمام دكانه، فى أبهى صور العرض وينتظر الجميع بأهله وعياله موكب المحتسب».
فاليوم يوم الـ«بك» المحتسب، وهو يتحول فى هذه الليلة إلى سيد يأمر فيطاع، إنه يتحول على حد وصف «جلبى» إلى حاكم مسيطر فى هذه الليلة ونهارها، فى يده أمر مطلق سائر المفعول إلا القتل فقط. ولأن لكل كبير كبير فإن المحتسب لا يستطيع أن يلعب لعبة الأمر والنهى فى هذه الليلة إلا بعد أن يؤدى واجب السمع والطاعة والخضوع والركوع لكبيره وسيده الماكث فى بلاط القلعة، وهو الباشا التركى الذى يجب أن يذهب إليه المحتسب أولًا عند صلاة العصر، ويقبل الأرض بين يديه، ويهنئه بالمناسبة الشريفة، ولحظتها يفيض عليه الباشا بكرمه فيمنحه حلة جديدة يرتديها وهو يقود الموكب، بعدها يأذن له الباشا بانطلاق الموكب، بعد أن يشنف أذنه بتعليماته السامية.
كان موكب رمضان مسرحًا لاستعراض خريطة الحرف وأصحاب الحرف التى تروج فى بر مصر بصفة عامة، ويبدأ الاستعراض بموكب الفلاحين، بحكم أن الزراعة أقدم حرفة عرفها المصريون، ثم موكب البستانية، وكان فى القاهرة أواخر القرن السابع عشر 2060 بستانًا وحديقة، ثم موكب السقائين، فموكب الحدادين، فالنجارين، فالخبازين وتجار الغلال، فالبقالين، فالصابونجية، فموكب الجرّاحة والجواهرجية والخياطين وغيرهم وغيرهم.
كان المصريون يهللون كثيرًا عندما يظهر أصحاب الحرف ذات الصلة بالشهر الكريم، مثل موكب «الخوشافجية» الذين يصنعون «خوشاف رمضان» وموكب «السوبياجية» صناع مشروب «السوبيا»، وموكب بائعى اللبن والزبادى، وموكب الطرشجية. ويدلل ذلك على أن أغلب العادات الرمضانية التى لم تزل تسكن حياة المصريين حتى الآن تضرب بجذورها إلى قرون بعيدة فى عمق الزمان.
فى ليلة الرؤية كانت القهاوى تنتعش وهى تستعد لإحياء ليالى رمضان. بلغ عدد مقاهى القاهرة بين الفترة من 1672- 1680 ما يقرب من 643 مقهى تتوزع فى أنحاء القاهرة وبولاق ومصر العتيقة ومنتجع قايتباى، وكان بعضها يستوعب أكثر من ألف شخص. وكانت تتألق بالمغنين والمداحين والشعراء والرواة والقالة.
احتضنت مقاهى المحروسة- فى ذلك الوقت- ليالى رمضان، حيث يتقاطر إليها الزبائن من كل اتجاه، بغض النظر عن مستواهم الاقتصادى، فقد كانت الأسعار متفاوتة داخل كل مقهى تبعًا لموقعه، وتبعًا لفخامته، والخدمات المقدمة فيه، لكن يبقى أن كل من كان يملك ولو قرشًا واحدًا يجد له مكانًا على المقهى ليتسمتع بواحدة من أجمل السهرات الرمضانية.
محبة المصريين وولعهم بطقوس الشهر الكريم تمتد بجذروها إلى ما هو أبعد من حياتنا المعاصرة، وهى تعبر عن جانب من حبهم وولعهم للحياة.
كذلك شأن الشعوب القديمة فهى شعوب تلتصق بحاضرها بنفس درجة التصاقها بالتاريخ، وكما تحتفظ بطقوس الماضى فإنها تضيف إليها من عنديات حاضرها، لتقدم خلطة قادرة على الدفع إلى الاستمرارية، رغم ضغوط الحياة ومشكلاتها وتعقيداتها.