محمد عبدالعزيز يكتب.. عاشت وحدة وادى النيل.. شعار قديم جديد
ظلت العلاقات الثنائية بين مصر والسودان علاقات لها خصوصية تميزها أكثر من كونها مجرد مراعاة لحقوق الجوار، فقد درجنا على أن شعبى مصر والسودان هما شعب واحد يعيش نصفه فى شمال وادى النيل ونصفه الآخر فى جنوب الوادى، ومضت العلاقة بين البلدين قائمة على الاحترام المتبادل ومراعاة حسن الجوار، وكيف لا وهناك علاقات نسب ومصاهرة ومحبة غير مصطنعة بين شعبى البلدين.
ويشهد التاريخ والجغرافيا والواقع أيضًا على ما يكنه المصريون لأشقائهم السودانيين من محبة وتقدير، الأمر الذى تؤكده حاليًا استضافة مصر آلافًا من السودانيين على أراضيها، يعاملهم المصريون بمنتهى المحبة وعدم التفرقة بين كون هذا المواطن مصريًا أو سودانيًا، وتاريخيًا يشهد التاريخ أن مصر دخلت السودان فى المرة الأولى بأمر من الخليفة العثمانى لواليه فى مصر محمد على باشا، كما أن مصر لم تكن دولة احتلال للسودان، إذ كانت هى ذاتها دولة تحت الاحتلال البريطانى ولا تملك من أمرها شيئًا، الأمر الذى بدا واضحًا، حين أمرت بريطانيا بإخراج الجيش المصرى من السودان بعد اغتيال السير لى ستاك حاكم عام السودان، ثم كانت عودة الجيش المصرى للسودان طبقًا لاتفاقية الأستانة، ويذكر التاريخ أنه عندما قرر السودانيون الانفصال عن مصر كانت مصر هى الدولة الأولى التى اعترفت باستقلال السودان.
ولنترك حديث التاريخ لنتكلم عن حديث الواقع ولغة المصالح التى تحكم علاقات الشعوب فى زمننا هذا، فقد ظل حلم التكامل قائمًا بين البلدين، وإن كان يخفت فى فترات، ويعلو صوت المطالبين به فى أحيان أخرى كثيرة، وذلك وفقًا لطبيعة النظام السياسى ومدى قناعاته بجدوى هذا التكامل لصالح البلدين معًا، إذ لاحظنا خطوات حقيقية نحو تحقيق هذا الهدف فى حقبة النميرى، ثم تراجع مع حكومة الإنقاذ التى قادها البشير ومن خلفه الترابى بتوجهاته المعروفة. تعيش كلتا الدولتين اليوم فى ظل زخم سياسى بعد التغيرات السياسية التى جاءت على إثر ثورتى مصر ٢٠١١/ ٢٠١٣، ثم ثورة السودان على نظام البشير ٢٠١٩، ولأن مصر لا تتمنى للسودان إلا كل الخير، فقد رحبت بهذه الخطوة التى أرادها شعب السودان، ومضت فى تقديم الدعم السياسى الواجب لمساندة النظام الجديد هناك، وخلال هذا الأسبوع شهدت العلاقات الثنائية بين البلدين زخمًا كبيرًا على مستويات عدة، وأمر كهذا لا يمكن أن يكون إلا بدعم وتوجيه من القيادتين السياسيتين فى القاهرة والخرطوم، وهو تنسيق حتمى فرضته تلك التحديات الدولية والإقليمية التى تواجهها مصر والسودان، تنسيق يصب فى مصلحة الشعبين فى شمال الوادى وجنوبه.
وهنا لا بد أن نطلب من رجال الأعمال الوطنيين أن يتدخلوا بضخ استثماراتهم فى السودان، وليس هذا من باب الواجب الوطنى أو الانتماء القومى وحدهما، لكنه من حيث «المصلحة» المباشرة التى سيحققها رجل الأعمال إذا بادر باستثمار مدخراته فى مجال الزراعة مثلًا، فالسودان الذى يوصف بسلة غذاء العرب فى حاجة للاستثمارات الضخمة والأيدى العاملة القادرة على استغلال نحو ١٧٠ مليون فدان قابلة للزراعة هناك، منها ٤.٧ مليون فدان من الأراضى المروية، أضف إلى ذلك فرص الاستثمار فى مجال الثروة الحيوانية التى تبلغ نحو ١٠٣ ملايين رأس بين أغنام وأبقار وماعز وإبل.
جانب آخر مهم التفت إليه أحد أصدقائى النابهين، إذ لاحظ تهافت السودانيين على القدوم إلى مصر بغرض العلاج، فبادر بالاستثمار فى المجال الطبى بعمل مستشفى كبير، وتعاقد مع أطباء مصريين أهل للثقة ويتميزون بالكفاءة ليوفر على الأشقاء أعباء السفر وتكاليفه فى ظل الظروف الصحية التى يكون فيها المريض، وتصعب عليه فرصة الاستمتاع بمزارات مصر والعيش بين أهلها بتفاعل كما يحب، وهكذا سيجد المستثمر فى تلك الأرض البكر بابًا، بل أبوابًا للخير له ولأهل السودان مع كل فكرة يسعى لتنفيذها هناك، وهكذا يبقى السودان هو تلك الأرض البكر التى تفتح ذراعيها لكل من يريد لها ولأهلها الخير.
فهل سيكون فى العالم كله مَن هو أقرب له من الشقيق الذى جمعته به الجغرافيا والتاريخ والمصلحة المشتركة؟ نعم لا مانع من تغليب لغة المصالح المشتركة والمتبادلة، فهى اليوم اللغة الغالبة التى يتحدث بها العالم كله، لكن ماذا لو جمعنا بين تلك اللغة وبين ذلك الإرث العظيم من الود والمحبة الذى يجمع شعبينا، لينتهى الأمر بتحقيق الخير والرفاهية للطرفين؟ مبلغ علمى أن هذا هو ما تتجه إليه القيادتان الواعيتان فى مصر والسودان.