رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«في البيت الريفي».. قصة تشيخوف عن النفس البشرية

تشيخوف
تشيخوف

رغم وفاته منذ ما يقارب المائة وعشرين عاما مازالت كتابات تشيخوف خالدة، بل وجذابة للقراء في كل دول العالم على اختلاف مشاربهم وأعمارهم، والسبب في الخلطة السحرية التي كان يجيدها الكاتب الروسي الذى يصنفه البعض بأنه أفضل من كتب القصة على وجه الأرض، وهو لقب يستحقه بجدارة رغم عمره القصير الذى لم يتجاوز الأربعة والأربعين بعد أن غيبة الموت بفعل مرض السل. كانت خلطة تشيخوف السحرية تكمن في التجديد المستمر بخلاف الكثيرين من الكتاب الكبار ممن سبقوه أو لحقوه حيث كان أغلبهم يمشى على خط مستقيم لا يحيد عنه، وهذا ما يمكننا أن نطرحه في موضوع مستقل.

وفى هذه السطور نتناول قصة تشيخوف المميزة "في البيت الريفي" والتي اعتمد فيها على عنصر المباغتة أو "الساسبنس" وتبدأ القصة برسالة غرامية تصل إلى "بأفل ايفانتش" وهو رجل متزوج ووقور وليس له في الغراميات والخيانات الزوجية.

جاءت الرسالة كالتالي "أنا أحبك.. أنت حياتي، سعادتي، كل ما أملك اغفر لي اعترافاتي، ولكنى لا أقدر على العذاب في صمت، أنا لا أرجو منك المشاركة بل العطف، تعال اليوم في الساعة الثامنة عند العريشة القديمة، أنا لا أرى لزوما للتوقيع باسمي، ولا تخشى من تلك الرسالة المجهولة، فأنا شابة جميلة، فماذا تريد أيضا؟".

بعد انتهاء الرسالة بدأ تشيخوف يلعب على وتر البعد النفسي للشخصية. حيث بدأ يتأفف ايفانتش من الرسالة. حيث قال: إنها حمقاء تعتقد أننى رجل منحرف، أو أننى مراهق سيركض خلفها وسيذهب إليها عند التعريشة. ثم بصق وقال ساخرا وحانقا في الوقت نفسه: تكتب لي أنا أحبك كيف تكتب هذه الحمقاء لرجل مستقيم مثلى أنا أحبك؟ يبدو أنها أرملة لعوب.

يجعلنا تشيخوف نتفاعل مع البطل الذى يبغض الحرام ولا يرضى بخيانة زوجته، ثم يجرفنا تشيخوف لمجرى آخر حيث التحول النفسي من الرفض التام إلى مناقشة الأمر بين البطل ونفسه. ترى من هي؟ ولماذا اختارتني أنا؟ هل هي الفتاة الشقراء التي كانت تنظر إلى أمس؟ واستخدم تشيخوف عبارة بديعة جاءت أيضا في شكل سؤال هل يمكن لمخلوق رهيف نوراني أن يحب قرموطا عجوزا مثلى؟

بدأ الحوار الداخلي للبطل يدفعه للتعرف على الفتاة لمجرد العلم بالشيء، ثم انتقل الأمر من دافع الفضول إلى دافع الحب ثم إلى الرغبة، بدأ ايفانتش يسترجع الثماني سنوات الماضية وهى عمر زواجه وكيف كانت رتيبة فقال في نفسه: ولماذا لا أجرب الحب ولو مرة واحدة ثم أتوب؟ هل تبخل على زوجتي بمرة واحدة من السعادة.

اختمرت الفكرة في نفس ايفانتش وقرر الذهاب الى الموعد المقرر وبينما هو شارد سألته زوجته فيم تفكر فقال لا شيء فقط أشعر بصداع.

ولما حان الوقت خرج من بيته مرتديا بذلته الأنيقة وتوجه نحو العريشة القديمة، وراسه معبأة بمئات الأسئلة من هي وماذا ستكون ليلتي معها. ولما دخل العريشة صعق ايفانتش، ليس لأنه وجد امرأة دميمة كما يرد في ذهن القارئ الذى تلاعب به تشيخوف بسرده البديع، بل لأنه وجد "ميتيا" شقيق زوجته الذى يسكن معه في البيت موجودا، فسأله ما الذى جاء بك إلى هنا في هذا الوقت؟ فقال جئت لأسترجع دروسي، فنهره ايفانتش وطلب منه أن يذاكر في البيت، إلا أن ميتيا كان مصرا على البقاء. وايفانتش يلعنه في سرة لأن الجميلة ستقدم بعد دقائق، لكنه حاول أن يهدأ من أعصابه ويتعامل مع ميتيا برفق لعله يقبل لكن الشاب رفض واعتبر هذا الرفض مسألة مبدأ.

وبينما الاثنان يتشاجران أطلت فتاة بوجهها من باب العريشة ثم تراجعت فقام ايفانتش بسب ميتيا، ولما عادا إلى البيت كل منهما ينظر إلى الآخر بغضب قالت الزوجة: لا تغضبا. أنا صاحبة الرسالة بل الرسالتين إحداهما لك يا زوجي الحبيب والأخرى لشقيقي.

وهنا يجول بخاطرك لماذا تكتب الزوجة هذه الرسالة الغرامية لأخيها فهناك سبب منطقي أن ترسل بها إلى زوجها لتتأكد من حبه وولاءه لكن لماذا شقيقها؟ النهاية كانت مباغتة ومخالفة لما يدور في عقل القارئ. حيث قالت الزوجة. لدينا غسيل اليوم وكان على أن أجد طريقة لأخرجكما من البيت. ليبقى السؤال الأهم من هي الفتاة التي أطلت بوجهها داخل العريشة؟