رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس السادس.. مُفرّح القلوب


يذكر الأب إبراهيم توفيق «راعى كنيسة الأنبا بولا بأرض الجولف»، الذى كان يعرف الأب الراهب مينا المتوحد «فيما بعد البابا كيرلس السادس» وقت أن كان يقيم بالطاحونة بمصر القديمة، فيقول: كانت تسكن بمصر القديمة سيدة فاضلة تُدعى أم سامى «فيما بعد كانت والدة السيدة الفاضلة حرم القمص ميخائيل يوسف شقيق البابا كيرلس السادس» ولم يكن بينهما فى ذلك الوقت أى علاقة قرابة أو نسب، ولكن الأسرة كانت على علاقة بنوة بالراهب مينا المتوحد فى طاحونة مصر القديمة، وكثيرًا ما كانوا يترددون عليه فى الجبل للصلاة معه.

لذلك عندما طُلب من الراهب مينا ترك الطاحونة سارعوا بإعطائه قطعة أرض هى جزء من أرضهم، وأول ما بُنى هو مدرسة «أصبحت فيما بعد حجرات للطلبة المغتربين». ابتدأ بحجرة واحدة لتكون «قلاية» خاصة به، وفى الفناء بنى هيكلًا للرب أولًا وصحن الكنيسة، لأنه كان مهتمًا طوال حياته ببناء مساكن لعبادة الرب.

كان ذلك فى سنة ١٩٤٨ وكنا نصلى معه وكانت الأرض ترابية، كما كنا نراه يحمل «قفة» الطوب بنفسه ليساعد العمال فى البناء، وفى هذا كان متشبهًا بإبراهيم أب الآباء «أب إسحق ويعقوب» الذى كان يهتم أن يقيم مسكنًا لعبادة الرب فى أى مكان حل فيه.

الرب كان معه وكان يقوم بتسهيل جميع أموره، والرجل المقاول كان على علاقة جيدة بالراهب مينا المتوحد، وخطوة خطوة تم بناء كنيسة مار مينا بمنطقة الزهراء بمصر القديمة.

كان لديه كم هائل من مشاعر الأبوة.. اهتمام ورعاية روحية وجسدية، كان محبًا للعطاء، بمعنى أنه لا يوجد شىء يصل إليه ويحتفظ به لليوم التالى!! كان يُدخل بنفسه الطعام للطلبة المقيمين ببيت الطلبة، وفى نفس الوقت اقترنت المحبة بالحزم، فلا يستطيع أحد من الطلبة أن يخرج أو يدخل إلى البيت فى وقت متأخر، ولكن كل شىء بمواعيد وبإذن خاص، كما كان أيضًا يهتم بحياتهم الروحية، بالإضافة إلى متابعته لهم فى استذكار دروسهم وانتظامهم فى الدراسة بالمدارس والكليات التى كانوا بها. البابا كيرلس كان صاحب مدرسة جميلة فى العطاء والعطف على المحتاجين، فكان يعرف عائلات كثيرة تعانى من ضوائق مالية، فكان يرسل لهم مبالغ نقدية وهم فى أماكن إقامتهم لئلا يجرح شعورهم أو يكسر قيمتهم. وهنا يضيف الأب الكاهن إبراهيم توفيق: «أن البابا كيرلس كان يعطينى مبالغ نقدية لأقوم بتوصيلها لإناس ساكنين فى مناطق عمرى ما تخيلتها أو رأيتها، ففى إحدى المرات أرسلنى لأسرة مقيمة فى منطقة كنيسة العذراء بابليون الدرج، وجدت المنازل هناك تحت الأرض، وعندما دخلت البيت وجدت سيدة المنزل قد قامت بإعداد الشاى وتضع فيه الخبز لكى تقدمه طعام الغذاء لأطفالها!!».

البابا كيرلس السادس كان يهتم دائمًا بأمثال تلك الحالات ودائمًا يرسل لها احتياجاتها، وفى خارطة الشيخ مبارك «المنطقة التى بها كنيسة مار مينا بمنطقة الزهراء» كان عنده حوالى ٨٠ عائلة تعيش تحت خط الفقر- نعم تحت خط الفقراء- فكان فى الأسبوع الأول من الشهر يطلب من الأب إبراهيم توفيق أن يحضر عنده ويرسله فى أماكن أول مرة يزورها بل أماكن لا يصدق عقل أن هناك أناسًا يقيمون بها.

البابا كيرلس السادس لم تكن لديه خزانة للأموال، لكن كان كل من يعطيه أى مبلغ كان يضعه فى منديل ويحتفظ به لصرفه عند الاحتياج، فى إحدى المرات كان أحد الآباء الكهنة يعانى من أزمة مالية شديدة، مديون ويريد أن يجهّز ابنته للزواج حتى إنه قام برهن شبكة ابنته. وعندما علم البابا كيرلس بالموضوع قام بالاتصال بالأب ميخائيل داود بكنيسة السيدة العذراء بروض الفرج، وأعطى له المنديل الذى به المبالغ التى يقوم بتجميعها، وقال له: «اذهب وحل مشاكل الأب الكاهن المتعثر ماليًا». قام الأب ميخائيل داود بفك رهنية الشبكة، وسدد جميع ديون الأب الكاهن، وفوق ذلك اشترى «أنتريه» لابنة الكاهن، وكان ذلك على آخر جنيه فى المنديل الذى تسلمه من البابا كيرلس، وهنا تحقق ما ورد فى الكتاب المقدس: «بركة الرب تُغنى ولا يزيد معها تعب».

كان مُحبًا جدًا لأولاده الشباب ويحتضنهم بأبوة فائقة وبالأخص أبناء الإسكندرية لأن الإسكندرية هى إيبارشية البابا وهو المسئول عنها ولا يمكن أن يجعل أحدًا آخر يتولى مسئوليتها.

أذكر أن أحد أصدقائنا بالإسكندرية كان قد توجه إلى القاهرة لقضاء فترة التدريب العسكرى، فما كان من البابا كيرلس إلا أنه اتصل بالوحدة العسكرية وطلب منهم بأبوة إن كانوا يسمحون للمجند فلان بأن يغادر معسكر التدريب ليلًا ليقضى ليلته بالمقر البابوى بالأزبكية، وعلى الفور وافق قائد الوحدة العسكرية، وكان صديقنا هذا يغادر الوحدة ليلًا ويتوجه إلى الحجرة المخصصة له، وفى الصباح الباكر من اليوم التالى يستيقظ مبكرًا ويحضر صلاة القداس مع البابا كيرلس، ثم يتوجه بعد ذلك إلى الوحدة العسكرية. وأذكر- أن صديقنا هذا- قال لنا إن البابا كيرلس أعطاه هدية عبارة عن «كتاب التسبحة» باللغة القبطية وسجل له إهداء جاء فيه: «اذكر خالقك فى أيام شبابك»، ثم توقيع «كيرلس السادس» باللغة القبطية. وأذكر أيضًا أنه بعد أن انتهيت من امتحانات السنة الثانية فى هندسة الإسكندرية سافرت إلى القاهرة لقضاء إجازة طرف عمى- أحد سكان منطقة مصر الجديدة- وكان ذلك فى شهر سبتمبر ١٩٧٠. حدث فى يوم ١٠ سبتمبر ١٩٧٠ أن توجهت إلى الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالأزبكية لحضور صلاة عشية «عيد النيروز» (أى عيد الشهداء الذى هو رأس السنة القبطية) مع البابا كيرلس.

وبعد انتهاء الصلاة، توجهت إلى قاعة الضيافة البسيطة جدًا التى كان يستقبل بها شعبه، وسألته عن موعد صلاة قداس «عيد النيروز» فأخبرنى بأنه فى الخامسة صباحًا. ثم غادرت القاعة وعدت إلى منزل عمى.

وفى صباح اليوم التالى توجهت أنا وعمى إلى الأزبكية لحضور الصلاة. وعندما توجهت لتحية البابا كيرلس، بادر بسؤالى- وكأن هذا السؤال كان يشغل فكره طول الليل- فقال لى: «يا حبيب أبوك أنت نمت بالأمس فين؟» فقلت له: عند عمى. فسألنى: «يا ابنى أنت نمت فى راحة؟»، فأجبت بالإيجاب. فقال لى: «يا ابنى عندنا هنا أماكن كثيرة تعال نام عندنا»، فشكرته. ثم سألنى: «وعمك ده بيشتغل إيه؟»، فقلت له: أستاذ بالجامعة. ثم سألنى: «وعمك هذا هل هو موجود هنا؟»، فأجبت بالإيجاب. فقال لى: «استدع لى عمك». توجهت إلى عمى وأخبرته بأن البابا يريد مقابلته. توجهنا سويًا، وأمام البابا كيرلس سأله بأبوة معهودة: «يا حبيب أبوك ابننا هذا هل مستريح فى الإقامة عندك؟ إحنا عندنا هنا أماكن كثيرة، يا ريت يحضر ويقيم معنا»، لكن عمى أكد له أنه مستريح عندنا وتوجد أماكن كثيرة عندنا.

ولم يتركنى البابا كيرلس حتى تأكد تمامًا أننى فى القاهرة أقيم إقامة طيبة. أبوته الصادقة كانت تفّرح القلوب. كان البابا كيرلس السادس- بحكمة الآباء- يقول لنا ونحن صغار: «يا ابنى دارى على شمعتك تنور»، لأنه كان ضد أن يفتخر الإنسان بأعماله وكان يحرص أن نعمل كل شىء جيد فى الخفاء، وتكون لدينا روح الخدمة الحقيقية دون افتخار أو إعلان عنها.

عندما كنا نحضر للصلاة معه بدير مار مينا بمريوط وكانت الصلوات تنتهى ليلًا، كنا نذهب للسلام عليه ونوال بركاته ونستأذنه فى العودة إلى الإسكندرية، فكان يستفسر بأبوة معهودة: «يا أولاد، كيف ستعودون إلى الإسكندرية وقد دخلنا فى الليل؟» فعندما كنا نخبره بأننا سنعود بسيارة خاصة، كان يطلب منا مقابلة السائق ويطمئن منه أنه يجيد القيادة، ويوجه لنا النصائح: «خلوا بالكم من الطريق». كان أبًا رائعًا ومفرحًا للقلوب بحق. أين هذه الأيام؟.