رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«كقطة تعبر الطريق».. عندما تنازع الإنسان هوياته القاتلة

جريدة الدستور

كثرت الروايات التي تناولت المشهد السوري منذ تفجره في العام 2011، ما بين روايات مفتعلة تستغل الحدث فقط لترويجها، وأخرى تقحم الحدث بافتعال ملحوظ لا يمت بالرواية بصلة أو حتى روايات تناولت الحرب السورية بابتذال من خلال حشد المشاهد والوقائع القاسية المجنونة في آن واحد لمحاولة استدرار عطف المتلقى وشفقته، وهي الروايات سرعان ما يزول وقعها بمجرد الانتهاء من قرائتها.

بينما قلة قليلة من الروايات التي تطرقت للوضع السوري، لكنها تناولته بمبضع جراح ماهر، يشرح ويرصد ويحلل، بل ويضع نفسه مكان أبطاله ويتماهي معهم ليقدمهم لنا كأناس مثلنا مثلهم، الفارق أن أقدارهم كان لها كلمة أخرى في مساراتهم ومصائرهم في الحياة.

تنتمي رواية "كقطة تعبر الطريق" والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية للنشر، للكاتب حاتم حافظ، في ثاني أعماله الروائية، حيث سبق وصدرت روايته الأولي عام 2009 عن دار العين بعنوان "لأن الأشياء تحدث". لتلك الفئة الأخيرة من الروايات التي لا تعتمد على المشهد السوري المأساوي٬ أو يحاول كاتبها أن يبتذل شخوصه بعرضهم كضحايا للشتات والتشريد الذي فرضته عليهم تلك الحرب أو بسرد وقائع وحشية تعرضوا لها والإسهاب في وصفها. بل اختار الاختيار الأصعب والأكثر مصداقية٬ فخلق شخصيات حقيقية تكاد تلمسها وتتشاجر معها حينما لا يعجبك موقف أو سلوك معين صدر منها.

ورغم كثرة شخصيات الرواية إلا أن الحبكة السردية لم تفلت من الراوي٬ بل جمع خيوطها المتشابكة بمهارة فنية عالية٬ تجلت في أن تصل هذه الشخوص في النهاية لكونها شخصيات حقيقية من لحم ودم٬ لكل منها لغتها وأسلوبها وعالمها الكامل الذي رسمه المؤلف دون تفاصيل مباشرة أو حتي مذكورة٬ إنما هي في ذهنية المتلقي من خلال السرد الروائي المتدفق باإنسيابية بدون تقعر أو مط وتطويل٬ وربما عمل المؤلف كــ "سيناريست" منحه هذه المهارة السردية.

شخصيات عالم "كقطة تعبر الطريق" يمكننا وصفها بأنها شخصيات "إنسانية" وكفي٬ بعيدا عن تعقيدات الجنس والدين واللون واللغة٬ حيث قدمت الرواية نماذج شديدة الإنسانية بكل تعقيدات الإنسان٬ مخاوفه٬ كوابيسه٬ إحباطاته٬ وحتي أحلامه وطموحاته. بل وفي لحظات ضعفه حينما يقع في الأخطاء التي يحاسب ويحاكم الآخرين عليها.

كقطة تعبر الطريق رواية عن ماكينة الرأسمالية المتوحشة التي لم يفلت حتي منها المواطن الغربي الأوروبي٬ وهو ما تبرزه شخصية "ميشيل" الفرنسي الكاره لباريس وحلمه الفرار منها لأي مكان آخر٬ باريس بالنسبة له ليست مدينة النور والجمال كما يشاع عنها٬ باريس بالنسبة لميشيل آلة وحشية يدور فيها كمجرد ترس صغير كغيره من التروس٬ وهو ما ترفضه وتتألم منه روحه الطيبة المحبة.

أما "عالية" فهي مغتربة طوال الوقت٬ لم يظهر اغترابها على خلفية المشهد السوري 2011 إنما كان قبله بكثير. عالية كانت مغتربة حتى عن ذاتها منذ الصبا فالشباب حتى صارت امرأة تتوزع حياتها بين مطارات العالم. وربما جاء مفتتح الرواية وهي تغادر من مطار بيروت لمطار بازل. حتى طفلتها "ليلي" التي كادت تصل للرابعة من عمرها وهي موزعة مشتتة بين اللغات٬ العربية والفرنسية والألمانية لا تدري لها جذورا ولا من أين جاءت ولأي بلد تنتمي.

ليلى الطفلة الصغيرة المشتتة بين اللغات والبلاد٬ معادل موضوعي ومرآة لــ "نيمو" الأمريكية ذات الأصول التونسية٬ تزوج والدها بأمها التونسية في أمريكا٬ لكن الأخيرة لم تستطع مقاومة الحنين واختارت أن تدفن في بلدها تونس. حتي نيمو لم تستطع الحياة في أمريكا مسقط رأسها وغادرتها إلي سويسرا٬ وظلت ترتحل من بلد لآخر٬ وعندما تواتيها الشجاعة لعبور الطريق تكتشف أن الجهة الأخري منه لم تكن كما توقعتها أو تخيلتها٬ فأبسط حقوق الإنسان في بلدها حرمت منه فكان لا بد لها من أن تعبر المحيط مرة أخري٬ وربما تكون متاهة نيمو واغترابها قصة أخرى ستعيشها الصغيرة ليلي مجددا في دائرة مفرغة لا تنتهي.

تحمل رواية كقطة تعبر الطريق الكثير من الأسئلة أكثر ما تحمل من إجابات٬ وتثير الكثير من الأفكار والقضايا الإنسانية الكبرى عن الاغتراب عن الذات والاغتراب عن الأرض. وتفجر الكثير من علامات الاستفهام٬ فمن خلال شخصية "سهيلة" ذات الجذور الفلسطينية من ناحية جدتها التي عاشت في الأردن٬ والمرأة التي يهابها الجميع حتي "فرنسيس" اليهودي مدير دار النشر التي تمتلكها٬ وهي مفارقة شديدة السخرية والمرارة في آن. فبينما من يشاركون فرنسيس "يهوديته" يحتلون أرضها ووطنها٬ يخضع لها هو٬ خضوع أشبه بالتذلل. سهيلة امرأة خطرة مهابة الجانب من الجميع كرئيس المافيا٬ لا لشيئ إلا أنها عضوة في أخوية يسارية يهودية التي حلت محل القوميات نفسها.

وهو ما يطرح التساؤل حول مدى إمكانية استبدال الإنسان هويته بمؤسسة أو منظمة أو كيان ما ليحتمي به بعيدا عن غربته؟ فسهيلة لأم كويتيه وأب عراقي عاش في الأردن٬ تزوج والدها بمغربية وعاش في تطوان٬ وحين كبرت سهيلة درست وعاشت لفترة من حياتها في لندن وتتزوج من سعودي٬ وتصير أبنتها الوحيدة سعودية. هويات متعددة ومختلفة تتنازع سهيلة٬ ويبدو أنها اختارت عضوية الأخوية اليسارية اليهودية وطنها لها وهوية تستمد منها القوة والحماية لتستطيع السير قدما والاستمرار في مواجهة وحشية والرأسمالية المعولمة.

في حكاية "كقطة تعبر الطريق" ينحاز السرد الروائي للإنسان والقيم الإنسانية بتجرد تام٬ فكما هناك في الغرب من يري المسلمين والعرب مجرد إرهابيين٬ هناك أيضا من لا يراهم كذلك٬ فــ"ميشيل" يدافع عن "إيهاب" العامل بدار النشر٬ ويهدد الممرض في المستشفي عندما نعت إيهاب أو "باها" بأنه إرهابي٬ بأن ما صدر منه يخالف القانون٬ خاصة وأنه يتفوه به في مكان عمله. بل يحاول ميشيل طوال الوقت أن "يمرر اللطف" لكل من حوله بدون الإلتفات للغة أو الجنس أو الدين أو اللون٬ وهو ما يعود إليه أيضا في أشكال مختلفة منها حب الصغيرة "ليلي" الجارف له٬ حتي أنها كانت سفيرته إلي أسرة والدتها فتركت لديهم إنطباعا جيدا عنه٬ وشعور بالراحة الطمأنينة عليها وعلي والدتها عالية بصحبته والإقامة معه.

كما لفتت الرواية لميراث الأفكار الأصولية سواء الدينية أو الإجتماعية التي نحملها معنا أينما ذهبنا. فرغم المعاملة الطيبة والمحبة التي تعامل بها "أولجا" كلا من عالية وإيهاب٬ حتي أنها تواطئت معه في الكذبة التي ألفها كونه هنديا ليتمكن من الحصول علي الوظيفة بدار النشر٬ إلا أن باها يتردد في تناول طعامها٬ ودائما ما يراها مجرد يهودية لكنها طيبة٬ لم يستطع التخلص باها أو إيهاب من ميراث أفكاره التي غرست في ذهنه عن اليهود حتي مع ما اختبره بنفسه من أولجا التي عاملته كابنها أو شقيقها الصغير.

عالية نفسها ومع كل ما حصلته من علم وثقافة٬ واختلاطها في مرحلة الجامعة باليساريين٬ إلا أن أفكارها المنغلقة تجاه الآخر خاصة الرجل٬ مما جعلها دائما متحاملة علي ميشيل٬ ولا تري فيه إنسان محب يحاول بشتي الطرق إسعادها. لا تري عالية في ميشيل غير رجل يفعل ما يفعله تجاهها ليحصل منها في المقابل علي جسدها٬ وهي الفكرة التي ترسخت في ذهنها منذ الصغر٬ وحملتها كصليب معها حتي في بلاد لا تعرف هذه النظرة بين الرجل والمرأة.