رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنا «چو» أفعل ما يحلو لى.. هل شوّه الغرور أفلام يوسف شاهين؟

يوسف شاهين
يوسف شاهين

يوسف شاهين من الشخصيات التي ستبقى أبدا محل جدل، لا يمكنك أن تمسكه متلبسا بحالة واحدة وتقول إن هذا هو، فهو بتعبير أهل الفن "قماشة واسعة" يمكنك أن تنسج منها الكثير من الحكايات، وكل حكاية ستجد لها أدلة وبراهين مختلفة، ولكن مع حلول ذكرى ميلاد هذا الرجل، والذي لا يمكنك حصره فقط في كلمة "المخرج"، تبادر العديد من الأسئلة إلى الذهن، ولكن كان أبرزها وعلى رأسها: هل هو عبقري.. أم مجرد مغرور عصبي قدم أعمالا مملة وناقض نفسه؟

الرحلة للإجابة عن هذا السؤال تطلبت ساعات وساعات من البحث والرصد والمشاهدة، وقراءة موضوعات طويلة يعود عمرها لعشرات السنوات، كان البحث في الأرشيف المرئي والمكتوب، ومراجعة الوقائع التاريخية، هو الخيط الذي يمكن أن نتبعه لكي نقبض على هذا العقل، ونفهم ما يدور فيه. تعرض لهجوم شديد، ونال استحسانا كبيرا، وقاد السينما المصرية إلى العالمية في مراحل ركود، كما قدم أعمالا تجارية يعتبرها كبار النقاد من النقاط السوداء في تاريخه، قدم أعمالا وطنية وحماسية وانتمى للمنبر اليساري، ولكنه في الوقت نفسه قدم أفلاما مثل "وداعا بونابرت" و"اليوم السادس"، والتي كان إنتاجها فرنسيا، وسببت غضبا شديدا لاحقا.

الناقد الفني البارز الراحل علي أبو شادي، في مقال طويل له نشر بجريدة "الفنون" عام 2003، اعتبر هذين الفيلمين جريمة، لأنه حينما قرر الإشارة لما فعله "شاهين" قال: "إنه ارتكب خلال الثمانينيات فيلمين هزيلين مرتبكين في الرؤية والأداء، حيث قدم في بونابرت واليوم السادس رؤية شائهة للتاريخ، وسعى فيها لتجميل وجه الاحتلال الفرنسي لمصر بعرضه صورة مضطربة ذات بعد إنساني كاذب انحاز فيها إلى الجانب الفرنسي"، ويواصل: "إن التشوش الواضح في الفيلمين الفرنسيين إنتاجا وتقنية قد يرجع في جزء منه إلى انفراد شاهين بكتابة هذين العملين وغياب العنصر المفكر الذي منح أفلامه السابقة وضوح الرؤية وعمق البصيرة ونضج الوعي".

هذا يقودنا لأمر هام عن سينما يوسف شاهين، وهو أن أعماله لو رأيتها دون اسم مخرج عليها ستعرف أنه المخرج، لأن الفيلم من وجهة نظره وكما قال هو في حوار للناقد الفني سمير فريد نشر بمجلة "الهلال" عام 1976، ليس وحدات منفصلة، والمخرج ليس شخصا ينفذ فقط، بل هو يرى أنه "من الخطأ تماما تصور أن دوري في الأفلام التي لم أشترك رسميا في كتابتها مع السيناريست كان التنفيذ. هذا خطأ شائع بين النقاد وبالنسبة لي وبالنسبة لغيري، إن السيناريو في النهاية يخرج من بين يدي ومن عقلي أنا"، ولكن عقلية يوسف شاهين نفسها التي تصبغ على أعماله لونا خاصا، كانت هي أيضًا طريقه للضلال.

نعم ضل يوسف شاهين طريقه بعض الشيء حينما رحل عن مصر في أواخر الستينيات تعبيرا عن شيء من الضعف الإنساني متأثرا بالمناخ العام، وهي مرحلة يعتبرها هو "فترة ضياع"، وأخرج نقطتين سوداوين جديدتين في مشواره المهني، وكانتا أيضًا إنتاج مشترك وهما "بياع الخواتم" و"رمال من ذهب"، إلى أن قرر العودة لمصر بعد ذلك، ليعثر على نفسه، فانطلق وظهرت مجموعة من أعماله الرائعة "الناس والنيل، والأرض، والاختيار، والعصفور"، ثم قرر أن يتكلم في "عودة الابن الضال".

يقول شاهين والكلام من بين سطور حواره مع سمير فريد عن فيلم "عودة الابن الضال": "أريد أن أعبر عن بعض الأشياء التي أحس بها. أنا يائس وأشعر أنني لن أقول كل ما أريد أن أقوله. لا أدري لماذا؟ ربما بسبب أذني التي تضعف، أو بسبب شيء آخر لا أدري".

وأما عن السبب الذي دعاه للمشاركة في كتابة "عودة الابن الضال" مع صلاح جاهين، ثم إخراجه فقد كان "الخوف"، نعم. هو يقول: "أنا خائف والخوف هو الدافع الرئيسي الذي جعلني أصنع هذا الفيلم وهو موضوع الحوار الذي أريد أن أصنعه مع الجهور في نفس الوقت، أنا خائف من العودة، خائف من مشاهدتي أشياء كانت قد اختفت تعود للواقع".

في "عودة الابن الضال" جسد يوسف شاهين الواقع كما يراه، نعم سينما "جو" كانت واقعية، ولكنه كما قال "لم أعد أهتم بالفرق بين الواقعية وغير الواقعية، ففي فيلم الأرض حينما جر الحصان محمود المليجي فهو أمر واقعي، أما حينما كان يحفر الأرض بأظافره فهو أمر غير واقعي ويرمز للتمسك بالأرض".

يمكنك أن تعتبره ملكا متوجا على "سينما الرمزية" إن جاز التعبير، فهو استخدم كل عناصر الزمان والمكان من خلال التصوير ليبرز ما يريد قوله، فهو يوصل رسالته مختزلا ما يمكن ألا يقال في الألوان مثلا، وهو ما عبر عنه مثلا في فيلم "الناصر صلاح الدين"، ففي أحد المشاهد عندما قرر إظهار مذبحة تعرض لها المسلمون، اكتفي بلون أبيض عليه دماء حمراء، دون أن يعرض التفاصيل، وكانت هذه أول تجربة له مع الأفلام الملونة، ومنذ هذا لحين لم يعد مرة أخرى لسينما الأبيض والأسود، لأنه تبين له يقينا أن الألوان تتيح له مساحات أوسع لعرض ما يدور في خلده.

وبمناسبة "الناصر صلاح الدين"، والذي كلف المنتجة "آسيا" الكثير، والذي حمَّله البعض وجه سياسي يشير لعبدالناصر لم يرده "جو"، فقد كان هذا العمل نقطة تحول هامة في شخصيته، ويقول علي أبو شادي: "كان فيلم الناصر صلاح الدين بداية وعي شاهين بعد لقائه بالعديد من المفكرين الذين ألقوا بذرة التغيير في فكره السياسي وأثناء عملهم معه في فيلم جميلة بو حيرد"، وأما "جو" نفسه اعتبره تجربه هامة تثبت أن الأعمال التاريخية الحربية لا تحتاج للميزانيات الضخمة التي ينفقها الغرب، وتكلف هذا الفيلم إنتاجيا 100 ألف جنيه مصري.

ولكن مع ذلك هو لم يكن "يبخل" على فنه، فقد اتهم بأنه مسرفا بالتزامن مع تأسيسه شركة "أفلام مصر العالمية"، بعدما عانى من مشاكل إنتاجية مع القطاع العام، وكان هذا الحديث عن هل سيبقى كمنتج بنفس عقله كمخرج، وكان رده أنه ليس مسرفا، ولكن أيضًا: "عندما يكون الاختيار بين النبلة والمدفع وتختار النبلة فأنت حر تماما، ولكنك أكبر أحمق في العالم ولن تضر غير نفسك، إنني لا أقول إن فرصة الاختيار متاحة للجميع، ولكن عليك أن تحارب من أجل هذه الفرصة"، وهو يقصد الأدوات المستخدمة في عملية الإنتاج.

حكاية يوسف شاهين كانت ممتزجة بالحياة والثقافات المختلفة، ربما هو عاش حيوات كثيرة في حياة واحدة، فهو ابن لأب لبناني وأم يونانية، نشأ في الإسكندرية حينما كان مستقرا لبشر من بلدان كثيرة، وتعلم لغات مختلفة، وعرف أن طريقه هو الفن، ودرس في أمريكا، وفي بداية حياته أحب فاتن حمامة بعض الوقت، وبعد ذلك راقصة باليه روسية تدعى "يكاتيرينا أوموف"، والتي توفيت صغيرة، ثم بعد ذلك تزوج الفرنسية كوليت شاهين، التي قضى معها عمره، دون أن ينجبا.

بعدما أنهى "جو" دراسته بمعهد باسادينا المسرحي في أمريكا، عاد لمصر وعمل مساعدا للمخرج الإيطالي "فريونتشو" في فيلم "امرأة من نار" الذي ظهر عام 1950، وكانت تلك تجربته الوحيدة في أن يكون الرجل الثاني، وكان المخرج أجنبيا، وبذلك لم يعمل يوسف شاهين مساعدا لأي مخرج مصري أو عربي، وهو أمر ليس غريب على "جو" الذي يحب أن يكون مختلفا ومتفردا ويهوى الظهور والتعبير عن نفسه، فقد كان كل الجمهور بالنسبة له حلقة من البشر تجلس لتسمع ما يريد هو أن يقول، وما يريد أن يعلنه للعالم.

بدأ مشواره الفني بفيلم لم يكون قويا وإن كان أبرز قدرات هذا المخرج وهو "بابا أمين"، حيث قدم فكرة غريبة عن السينما المصرية، وكان عمره وقتها 24 عاما.

قد يعتقد البعض أن سينما شاهين كانت مجرد أعمال فنية سريالية ولم تلق استحسان الجماهير ولم تحقق عوائد، ولكن هذا اعتقاد خاطئ، فقد كشف في حواره مع سمير فريد، أن ثاني أفلامه "ابن النيل"، تكلف إنتاجه 13 ألف جنيه بينما حقق أرباحا وصلت لـ70 ألف جنيه، وهو بمعايير السوق أمر عظيم، فهو حقق ما يعادل 5.3 أضعاف تكلفة إنتاجه!

ولكن علينا أن نعرف أنه عند بداية يوسف شاهين الفنية بنهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، كانت السينما وقتها في حالة "سوء عظيم" وكانت تقدم أعمالا هزيلة وأغلبها منقول من الخارج، فتلك المرحلة كانت متزامنة مع الواقع ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكذلك ما حدث من هزيمة العرب عام 1948، واستمر هذا الوضع إلى عام 1956 عندما تمكن رجال يوليو 1952 من ضبط المناخ العام بعض الشيء، وإنهاء شعور الانكسار، وخلال تلك الفترة لم يعتقد شاهين أن هناك مخرجا وقتها قدم فنا حقيقيا سوى رجل واحد فقط وهو "صلاح أبو سيف".

قدم بعد ذلك تجربة هامة جدا في مسيرته الفنية والسينما المصرية وهي "باب الحديد"، والتي رأى فيها شاهين بأم عينه قاعة السينما فارغة، كما أن أحد الجماهير بصق في وجهه بعدما شاهد الفيلم، وهذا ينقلنا لنقطة مهمشة في حياة شاهين تختفي أمام أسلوبه وعصبيته، وهي أنه "حساس جدا"، عبر عن هذا أكثر من مرة، وقال إنه يشعر بالألم، شعر بهذا يومها، ويشعر به حينما يتعرض لنقد قاسٍ، ولكن أسوأه حينما كان يأتيه من شخص يعتبره شاهين "لا يعرف شيئا" كما كان في رؤيته مثلا للناقد طارق الشناوي، ولكن كان عزاؤه الوحيد في تجربة "باب الحديد"، مثلا أنه تعلم درسا، فيقول: "أنا لست بطبل كما أنني لست مضطهدا، وقد نالني من التشجيع الكثير ولكن ليس بما يكفي، لقد علمتني التجربة في باب الحديد أن نجاح أي فيلم ليس بما يحققه من إيرادات في العرض الأول ولكن بمدى قدرته على الاستمرار والتأثير".

في "باب الحديد"، لعب دور "قناوي" بائع الجرائد غير المتزن عقليا، الذي يهيم بـ"هنومة" عشقا، وقدم الدور بعبقرية تمثيلية لا يختلف عليها اثنين، ففي هذا المشهد حينما كان يهم لقتل "هنومة" حبا ولم تتم جريمته، وتم القبض عليه لإدخاله المصحة النفسية، ستشعر أن قلبك يسقط من فرط التعاطف معه، هذا الضعيف نفسيا وجسديا، أمام أفعى مثل التي قدمتها هند رستم، التي تغويه ولكن لا تريده، فقط تمتصه.

وبمناسبة الحديث عن عبقريته التمثيلية، فهذا هو الشيء الوحيد الذي كان يرتدع أمامه جموح "جو" في الظهور وحيدا، فكان يتراجع أمام عظمة أداء محمود المليجي ومحسنة توفيق مثلا، فهؤلاء كانوا يقدمون له فنا يوازي ما يتمنى!

حساسية شاهين كانت بوابته نحو العالم، حتى عصبيته داخل مواقع التصوير كانت تنبع من إحساسه بالفن الذي يقدمه، فعندما لا يرى ما يشعر به يتجسد أمامه على وجوه الممثلين، فإنه يغضب كثيرا، أزمة كبيرة حينما تشعر بأن لا أحد يفهمك، وهو الذي يريد أن يقول ويعبر.

ومن هذا الباب لا يمكنك أن تفصل أعمال شاهين عن حياته، ولا يمكنك أن تعاملها بالقطعة، لأن شاهين حالة واحدة متكاملة لا يمكن حصرها وحشرها في زاوية، الاختلاف الكبير بين يوسف شاهين مثلا ومخرجين كثر على الساحة، أنه ابن الحياة فعلا، ليس يعيش في عالم موازٍ، كان يقدم فنا يضع فيه من روحه، وروحه تلك هي التي تأثرت بالمناخ العام أساسا، وكان يهتم بالشأن العام، لأن فنه مرتبط بالمرحلة الزمنية، إلى جانب هذا عندما عاد من الخارج كان مطلعا جيدا على السينما العالمية وتقنياتها، وهو ما منحه أفضلية بين أبناء جيله، ولتعرف أن يوسف شاهين طوال تاريخه قدم 35 فيلما فقط، وعدد قليل من الأفلام القصيرة التي لم يجد نفسه فيها، في حين أن مخرجين عمرهم الفني لا يذكر أمامه اقتربوا من تحقيق رقمه وتجاوزه.

كان يؤخذ عليه أن بعض أعماله بها أجزاء غير مفهومة، أو من الصعب على الجمهور العادي فهمها بينما بيستمتع، وهو نفسه أدرك ذلك متأخرا، ولكن أيضًا كان يقول "أنا أقدم ما يجب أن أقوم به كدوري، وليس ما يريد الجمهور أن يراه".

وللتأكيد على أن شاهين كان يعتبر العالم مسرحه وجمهوره، وهو يقدم عملا "مونودراميا" هو بطله الأوحد رغم نجومه الذين ملأوا الدنيا نورا بعد ذلك، قدم سلسلة يحكي فيها سيرته وهي "إسكندرية ليه، وحدوتة مصرية، وإسكندرية كمان وكمان، وآخرها إسكندرية- نيويورك"، وهو شيء يمكنك أن تعتبره نرجسية أو غرورا، أو أي شيء، ولكن شاهين كان يرى العالم ويمتصه، ثم يخرجه لنا، وبالتالي هو كان يقدم لنا عالمه، والذي هو مرتبط بالوجدان المصري، فلم يكن منفصلا عن الواقع أبدا.

"جو" يحب الثناء، ويشعر بالغضب من العالم إذا لم يعامله كما يستحق، ويهاجم النقاد لأنه "إذا لم يفهموا أفلامي جيدا عليهم أن يشاهدوها مرة أخرى، وعندما يرون أنني كمخرج بذلت جهد كبير في تقديم العمل، عليهم أن يبذلوا جهد كبير أيضًا في نقده"، ومع ذلك يقول إنه كان يحتاج ناقد حقيقي، لأنه يساهم في مساعدته على تطوير نفسه من خلال رؤيته الصحيحة.

وبعدما حكي سيرته الذاتية التي لم يكن ليسمح لأحدٍ غيره أن يقدمها عنه بعد رحيله، لأنه هو الوحيد الأجدر بتقديمها، قدم عملين هما "المهاجر" و"المصير"، وكان يلعب بالتاريخ ليعرض الواقع، وتعرض لنقد حاد على فيلم "المصير"، أحدهما أن لغته كانت عامية، فقد أراد البعض أن يقدمه بالفصحى، ولكن لأن الذي يقول فصل العمل عن المرحلة واعتبره تأريخا لـ"ابن رشد" فقد قال هذا، بينما هو كان يعرض الحاضر.

وأما النقد الأشد فقد جاءه من العالم والمفكر المصري الدكتور جلال أمين، حيث كتب مقالا بمجلة "الهلال" عام 1997، عبر فيه عن غضبه من إقحام الجنس بشكل كبير في عمل يقدم أحد أعلام التنوير الإسلامي، وتوقف كثيرا عند كلمة "الله هو الحب" التي تكررت في الفيلم، لأنه أقحم الكلمة في سياق معين رفضه "أمين"، وقال: "أي حب يقصد يا ترى. ذلك أن الحب أشكال وألوان والحب الذي فرجنا عليه يوسف شاهين في فيلم المصير هو نوع واحد من الحب طبعا بسبب اعتبارات الشباك، ولكن إقحام الله في هذا الأمر يفوق الطاقة على التحمل".

ولكن علي أبو شادي كان له رأي آخر: "في المصير كما في المهاجر يضع شاهين أمام أعين وعقول المشاهدين حقيقة التعصب وعقول المشاهدين وحقيقة أن التعصب لا يخص دينا بعينه، أو وطنا بذاته وإنما هو آفة تنخر في جسد الأمم حين تخور قواها وتضعف قيادتها ويعم فيها الفساد ويتواطأ الكهنة مع السفلة والفاسدين من المتشحين برداء الدين وهو متهم براء".

قدم بعد ذلك فيلمه "الآخر" والذي يقتل فيه الغباء والإرهاب، الحب، في حكاية "آدم وحنان"، وينطلق بعد ذلك لفيلم "سكوت حنصور"، والذي كان سببا في خلاف كبير بينه وبين النقاد، الذين أجمعوا على أنه "إحدى نقاط يوسف شاهين السوداء".

في العام 2002 قدم شاهين فيلما نادرا في الظهور وهو "11 سبتمبر"، حيث كانت تجربة من إنتاج فرنسي يقوم فيها عدد من المخرجين بعمل أفلام قصيرة تعبر عن الحادث من زوايا مختلفة، وقد ناله هجوم شديد عن هذا الفيلم بسبب القصة التي اختارها، والتي ربطت بين ما حدث في برجي التجارة العالميين وما يحدث في فلسطين، ولكنه لم يقصد ذلك، بل كان همه هو أن العنف يخلق الكراهية، وكان يريد أن يتوقف كل هذا وأن يعود كل شيء للوراء، وينتهج الجميع لغة الحوار والحب.

اعتبر شاهين في حديثه لصحيفة "الشرق الأوسط" عام 2003، جاء ضمن سياق مقال للروائية العراقية إنعام كجة جي، أن الهجوم سببه "أنني عربي، ولأن وجهة نظري ليست مثلهم. إنهم يعتقدون أن الموضوع يدور حول برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك فقط. وأنا أقول إن تفجيرات نيويورك ليست الكارثة الوحيدة الحاصلة في العالم. إن الفلسطينيين يتعرضون للإرهاب، وهناك إهانة يومية واحتلال مستمر، ومن واجبي أن أكشف هذا".

وأضاف شاهين: "الصحافة الأمريكية كلها تساءلت بعد الأحداث لماذا؟ وقد حاولت أن أرد على هذا السؤال لأن مهمتي هي أن أعرض وجهة النظر العربية في فيلم يعرض وجهات نظر مخرجين من كل أنحاء العالم. وإذا كان ما قمت به لا يعجبهم يتفلقوا".

واختتم شاهين مسيرته الفنية بالفيلم الرائع "هي فوضى"، والذي كان يتنبأ بجذور الغضب في الشارع المصري، والتي انتهت بأحداث يناير 2011، حيث حمَّل كل الأخطاء لـ"حاتم" الذي كان يقول "اللي مالوش خير في حاتم مالوش خير في مصر"، ولعب الدور الممثل الرائع خالد صالح.

وتوفي يوسف جبرائيل أديب شاهين في 27 يوليو عام 2008، لتتوقف مسيرة حياة مخرج قضاها أمام الكاميرا وخلفها.

وإجابة سؤال هل هو عبقري أم مغرور؟ بالتأكيد "جو" كان عبقرية فنية لا تتكرر، وكانت قوته تنطلق من الضعف الإنساني والحساسية الشديدة، وكانت الحياة كلها بالنسبة له فيلم كبير هو بطله الأهم، ولكنه كان أيضًا نرجسيا في فنه فقط، وكان يرى نفسه "البطل الوحيد".