رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف دعم عبدالناصر الثورة ضد شاه إيران؟



تناولنا فى آخر مقالات سلسلة التهديدات التى تعرضت لها مصر من دول الأطراف هجمات الفرس فى عصور ما قبل الميلاد، التى انتهت بدفن الجيش المصرى جيش قمبيز فى بحر الرمال الأعظم بالصحراء الغربية، ثم استدعاء الملك «داريوش» إلى منف للاعتذار عندما أهدر جيشه الهدنة، وذلك قبل أن يقضى حليف مصر الإسكندر المقدونى على الإمبراطورية الفارسية.. نعرض فى هذا المقال التهديدات الإيرانية لمصر فى العصر الحديث.
العلاقات المصرية الإيرانية فى العصر الحديث بدأت خلال القرن التاسع عشر، عندما وقَّعَت الدولة العثمانية اتفاقية «أرضروم» مع الدولة الإيرانية «القاجارية»، التى سمحت لها الدولة العثمانية بتأسيس قنصليات لها فى الولايات، ومن هنا تم افتتاح قنصليات لرعاية المصالح فى كل من القاهرة وطهران عام ١٨٦٩، قبل أن يتم الاتفاق على تحويل هذه القنصليات إلى ممثليات سياسية عام ١٨٨٤.. وفى عام ١٩٢٨ تم توقيع اتفاقيات صداقة بين البلدين.
العلاقات بين مصر وإيران فى النصف الثانى من القرن العشرين اختلطت فيها خلافات المذاهب الدينية بإشكاليات الحالة السياسية، ما يفسر تبنى الأزهر الشريف محاولات التقريب بين المذاهب الإسلامية، وهى التى أحدثت آنذاك توافقًا بين علماء السنة وفقهاء الشيعة.. الأزهر انحاز لفكرة تدريس الفقه الجعفرى ضمن مناهج الفقه المقارن، وصدرت فتوى الشيخ محمود شلتوت المتعلقة بأن هذا المذهب مما يجوز التعبد به شرعًا.. هذا المناخ شجع العائلتين الملكيتين فى الدولتين على التزاوج فيما بينهما عام ١٩٣٩، حيث تزوجت الأميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق الأول، من محمد رضا بهلوى، ولى عهد إيران فى ذلك الوقت، الذى تولى عرش إيران بعد عامين من زواجه.. مصر كانت تسعى من خلال علاقة المصاهرة إلى نشر نفوذها فى المنطقة، فى الوقت الذى استهدف فيه الشاه مد نفوذ إيران إلى مصر، وقد لعبت بريطانيا، حليفة الدولتين آنذاك، دورًا مهمًا فى التقريب بين العائلتين!!.
محمد مصدق تولى رئاسة الوزراء فى إيران أبريل ١٩٥١، وبعد يومين من توليه المنصب قام بتأميم قطاع النفط، وقاد ثورة مدنية أطاحت بالشاه، وسحب الاعتراف بإسرائيل، وأغلق قنصليتها فى طهران عام ١٩٥١، هذه الخطوة أحدثت تطورًا إيجابيًا فى العلاقات المصرية الإيرانية، وقام مصدق بزيارة القاهرة فى نوفمبر ١٩٥١، كما زارها أيضًا السيد نواب صفوى، رجل الدين المتمرد الذى كان زعيمًا لحركة فدائيان إسلام آنذاك.. ولكن المخابرات الأمريكية نجحت فى تدبير انقلاب أطاح بمصدق، وأعاد الشاه المخلوع إلى عرشه فى أغسطس ١٩٥٣.
مصر بعد ثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢ تبنت سياسات ترفض الهيمنة الأمريكية.. عبدالناصر اختار التحرك ضمن تكتل مجموعة عدم الانحياز مع قادة الهند، ويوغوسلافيا، وإندونيسيا، واتخذ موقف العداء لإسرائيل، ولكنه تعاون مع الاتحاد السوفيتى ليواجه تحدى أمريكا والغرب.. إيران انخرطت فى حلف بغداد مع بريطانيا وتركيا وباكستان والعراق عام ١٩٥٥، وهو واحد من التجمعات التى تمت فى إطار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، واستهدف وقف المد الشيوعى فى منطقة الشرق الأوسط، ما جعله موجهًا ضد مصر وخطها القومى الوحدوى المضاد للاستعمار.
إيران انضمت أيضًا إلى عضوية «لجنة منزيس»، التى شكلها مؤتمر لندن فى أغسطس ١٩٥٦، بهدف إنشاء إدارة دولية تشرف على تشغيل قناة السويس كبديل للإدارة المصرية، ردًا على إعلان عبدالناصر عن تأميمها كشركة مساهمة مصرية فى ٢٦ يوليو ١٩٥٦، وهو الموقف الذى ندد به عبدالناصر بقوة، مقارنًا بين دعمه لتأميم إيران النفط فى مواجهة الاحتكارات الأجنبية، واستنكارها لحق مصر فى تأميم القناة.. إيران التى تولت رئاسة مجلس الأمن إبان النظر فى الأزمة، انحازت إلى مبدأ اختيار مفوض سامى لإدارة القناة من قبل الدول المعنية، وهو ما رفضته مصر، فقامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بحملة عسكرية فى ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦، للسيطرة على قناة السويس واحتلال سيناء، لكنها لم تنجح نتيجة المقاومة الشعبية المصرية والرفض الدولى من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.. العداء بين القاهرة وطهران بلغ ذروته عندما اعترفت إيران رسميًا بإسرائيل فى يوليو ١٩٦٠، وسمحت للوكالة اليهودية بفتح فرع لها فى طهران، ما دفع مصر إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية معها.. التناقض مع إيران بحكم تحالف الأخيرة مع المعسكر الغربى، أدى إلى تباعد تدريجى بين البلدين لم يتوقف إلا بعد رحيل عبدالناصر، وتولى الرئيس السادات مقاليد الأمور، لتبدأ مرحلة جديدة من التعاون بين الدولتين.
الانتفاضة الشعبية الإيرانية المناهضة لإسرائيل وللنظام الملكى وقعت فى يوليو ١٩٦٣.. الشاه اتهم مصر بتقديم الدعم المالى للثوار والتدخل فى الشئون الداخلية الإيرانية، والحقيقة أن السياسى المصرى «فتحى الديب» فى كتابه «عبدالناصر وثورة إيران»، والسيد محمد حسنين هيكل فى كتابه «مدافع آية الله»، قاما بنشر تفاصيل بالغة الأهمية عن هذه الفترة، التى أشار إليها آية الله الخمينى، بعد عودته من منفاه فى باريس عقب انتصار الثورة الإسلامية، مؤكدًا أن عبدالناصر هو الزعيم الوحيد الذى ساندهم.
بداية الاتصالات بين ثوار إيران ومصر تمت عن طريق السفارة المصرية فى برن سبتمبر ١٩٦٣، عندما قام «إبراهيم يزدى»، الذى أصبح فيما بعد أول وزير خارجية فى حكومة الثورة الإيرانية، بمقابلة السيد فتحى الديب، الذى كان يشغل منصب السفير، حيث نقل مطالب الثوار التى تتمثل فى دعمهم بدورات تأهيل سياسى لعدد من الشباب الإيرانى، وتطوير الإذاعة الموجهة بالفارسية لإيران من القاهرة، وتركيز الصحافة المصرية وإذاعة صوت العرب على القضية الإيرانية، بما يمثل دفعة لها على المستوى الدولى، ويرفع معنويات ثوار الداخل.. عبدالناصر كلف الديب وكمال رفعت بمتابعة الموقف، وشدد على ضرورة أن يخدم أى دعم لثوار إيران المصالح القومية العربية فى المنطقة.
قادة الثورة الإيرانية عقدوا خمسة اجتماعات بالقاهرة، تم خلالها تحديد أهداف الثورة وتوجهاتها وأولوياتها ونهج عملها، وبدأت عمليات التدريب الفكرى والعسكرى فى معسكرات خاصة بالقاهرة منذ يونيو ١٩٦٤، من خلال دورات، مدة كل منها ١٠ أسابيع، تضمنت قتال الصاعقة وحرب العصابات والعمليات السرية مثل التجنيد والمراقبة، والعمليات الفنية مثل التصوير والدعاية والإعلام وعلم النفس الاجتماعى والعقائد السياسية.. وسائل الإعلام الإيرانية نشرت تفاصيل ضبط عميل لبنانى الجنسية بمطار «مهرآباد» بطهران بداية يوليو ١٩٦٣، وبحوزته مبلغ ١٥ ألف دولار، ادّعى أنها مخصصة لتمويل انتفاضة الخمينى ضد الشاه.. إيران وجهت أصابع الاتهام إلى مصر، ما أدى إلى مزيد من التدهور فى علاقات البلدين.
قادة الثورة غادروا القاهرة إلى لبنان أواخر ١٩٦٦، مؤكدين سعيهم للاستفادة من حماية ودعم الطائفة الشيعية هناك، وعدم إثارة عمليات السفر من لبنان إلى طهران، والعكس، أى شبهات، خاصة بعد أن قرروا البدء فى تدريب غيرهم فى الداخل، بما تلقوه من تدريبات وخبرات فى مصر.. أوائل عام ١٩٦٧ قررت الدول العربية فرض عقوبات نفطية على إسرائيل، لكن إيران قامت بتحديها، وتعهدت بتوفير كل احتياجات إسرائيل من الطاقة عبر ميناء إيلات، ورغم الهجوم الإسرائيلى على الدول العربية فى ٥ يونيو ١٩٦٧، فإن إيران لم توقف دعمها لإسرائيل.. العداء الإيرانى لمصر وصل إلى حد التحالف الصريح مع عدوها الرئيسى.
كل القيادات التى تلقت تدريباتها فى القاهرة تبوأت مناصب رئيسية فى نظام الخمينى خلال مراحله المبكرة؛ «أبوالحسن بنى صدر» تولى رئاسة الجمهورية، «إبراهيم يزدى» وزيرًا للخارجية، «صادق قطب زادة» مسئولًا عن الإعلام، وغيرهم الكثير.. مصر كانت قد رصدت نوايا الخمينى وآيات الله منهم، وحذرتهم من أن المؤسسة الدينية بالتضامن مع تجار البازار يعملان على سرقة الثورة، والانحراف بها بعيدًا عن الدولة المدنية التى كان هؤلاء الثوار يسعون لتأسيسها، لكنهم طمعوا فى الاستفادة من شعبية هذه المؤسسة، وتصوروا أنهم قادرون فيما بعد على التخلص منهم، لكن المؤسسة الدينية تمكنت من تصفيتهم جميعًا والاستئثار بالسلطة.
ولكن كيف انقلب العداء الإيرانى لمصر إلى ما يشبه تشكيل محور تحالف بين الدولتين فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات؟، موعدنا المقال المقبل إن شاء الله.