رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تزييف التاريخ.. بالدراما ومناصرة القدس




تزييف التاريخ.. حيلة الرئيس التركى دائمًا لتحقيق أهدافه، يستغل المُتاح بين يديه، من فن إلى دين، لا فرق، ما دام سيصل إلى أهدافه، فى تحسين صورة الأتراك بين شعوب المنطقة والعالم.. لقد أدرك النظام التركى أن بإمكانه تحقيق اختراقات فعالة فى الشرق الأوسط وفى منطقة البلقان، وحتى إفريقيا، إذا هو استغل جزءًا من القوة الناعمة لتحسين صورة أجداده بين شعوب المنطقة، وهى الدراما.. فأصبحت تركيا أكبر منتج ومصدر للدراما التليفزيونية فى العالم، بعد الولايات المتحدة، وأصبحت منتجاتها الدرامية تمثل ٣٠٪ من الإنتاج العالمى، حسب إحصائيات Euro Data.. واستقبلت المنطقتان العربية والإفريقية تلك الأعمال بترحيب شديد، حيث بدأت موجة الشغف بالدراما التركية، فى مصر وتونس والجزائر، وانتقلت بعد ذلك، بفضل دبلجة الأعمال الدرامية للغة «الأمهاريك»، إلى إثيوبيا وغانا ونيجيريا وجنوب إفريقيا، وغيرها.
قبل حوالى خمس سنوات، وحين وصلت شهرة مسلسل «حريم السلطان» أقصاها، داخل تركيا وخارجها، خرج رجب طيب أردوغان غاضبًا ومُنتقدًا العمل، بقوله «ليس لدينا أجداد مثلما يجرى تصويرهم فى المسلسل».. إذ أظهرت إحدى الحلقات، السلطان سليمان القانونى وهو يعدم ابنه الأمير مصطفى، بسبب اعتقاده بخطر انقلابه على العرش، لأن المسلسل- فى رأى أردوغان- شوّه أحد أهم أجداده.. وهنا لا بد أن نؤكد حقيقة، أن أردوغان لا يفتخر بالخلافة الإسلامية، بل هو يحتفى بالخلافة العثمانية، ويرى أن مهمته هى امتداد لمهمة هؤلاء الأجداد.
باحثون فى أكاديمية يونانية، تابعة لمركز الدراسات الشرقية بجامعة بانديون للعلوم السياسية والإدارية فى أثينا، أجروا دراسة، كشفت عن أن الدراما التركية نجحت فى أن «ترسم صورة مختلفة عن الواقع تمامًا، باستخدام قصص خيالية، تبسط العلاقات المُحرمة بطريقة مضللة، وترسم صورة مخالفة لنمطية الرجل الشرقى ».. وأبانوا، أنه «خلال هذا التصاعد الدرامى المتباطئ، تواصل الدراما التركية طرح انطباعات مزيفة عن جرائم العثمانيين وتاريخهم الدموى، عوضًا عن تزييف التاريخ وطمس الحقائق، لتحقيق أطماع النظام التركى الحالى، من خلال اختلاق تاريخ آخر للعرق التركى والدولة العثمانية».
وفضحوا «خطط حزب العدالة والتنمية، للتوجه نحو المنطقة العربية، عبر إطلاق منصات إعلامية رسمية ناطقة باللغة العربية، حيث سعت الحكومة إلى التركيز على المسلسلات التاريخية، لتعيد رسم الصورة الذهنية للمواطن العربى، عن الاحتلال العثمانى سيئ الصيت.. فبدلًا من الصور الحقيقية للعثمانيين، تسعى الدراما التركية للترويج عنها بصور مختلفة، تجمل حياة الناس، فى تلك الأيام التى ساد فيها الأتراك لمدة أربعة قرون».. وزادوا «التوسع باسم الخلافة، لا يتم فقط باستخدام أدوات القوة التقليدية، بل أيضًا عبر الاستحواذ على العقول، بنشر أفكار الحزب ودعاياته بمختلف الطرق، لتمرير الرسائل العثمانية التى تخدم أجندتهم». وقالوا، إنه يتم استهداف الفئات الأكثر عرضة لتقبل تلك الأفكار، وهم الأطفال، لسهولة تمرير رسائل الحزب إلى عقله، عبر صناعة الإعلام والترفيه.. ففى عام ٢٠٠٨، انطلق مسلسل كارتون يدعى «بيبى»، أحد أشهر مسلسلات الأطفال فى تركيا، الذى يستعرض تمجيد الإرث العثمانى، ووصلت حلقاته إلى ٢١١ حلقة، وامتد عرضه لمدة سبع سنوات.. وللكبار، جاء «قيامة عثمان بن أرطغرل»، المسلسل التاريخى، الذى ينبثق من شجرة أعمال، بدأت مع مسلسلات بحجم «حريم السلطان»، «السلطان عبدالحميد»، «السلطان مراد».. وغيرها من الأعمال التى، وإن اختلفت مواضيعها والأزمنة التى تسلط الضوء عليها، إلا أنها دومًا ما تتفق على هدف واحد، وهو إبراز عظمة شجرة السلالة العثمانية منذ أن بدأت، بل والتمجيد فى أجداد مؤسسيها.
وتحاول الدراما التركية بصفة عامة، دومًا، اللعب على وتر مغازلة مشاعر المشاهدين، برؤية السلطان فى صورة أشبه بالخلفاء الراشدين.. وهو الأمر الذى يظهر واضحًا، منذ اللحظة الأولى لمشاهدة مسلسل «أرطغرل»، الذى عُرض قبل مسلسل «قيامة عثمان» مباشرة، وكأنها خطة واضحة، تحاول فيها الدراما التركية جعل المشاهد يتحسر على أزمنة هؤلاء «العظماء»!، ممن ينتسبون لدولة عثمان، دون أن تبرز أى من تلك الأعمال، أى دور واضح من الخلافة الإسلامية الموجودة وقتها بالفعل فى مصر، من خلال دولة المماليك، التى كانت تتمتع بقوة كبيرة ونفوذ قوى، ولم تُظهر تلك الأعمال إلا أرطغرل وعثمان وكأنهما كانا يحاربان وحدهما، ضد من يحاولون التغلب على دولة الإسلام، سواء كان ذلك فى الشرق من المغول، أو الشمال ممثل فى الصليبيين.. وهو الأمر الذى يبدو مقصودًا، بشكل كبير، من صناع العمل.
قلنا إن كل الطرق مشروعة أمام أردوغان، ما دامت تحقق الهدف الذى يرنو إليه.. فبين الحين والآخر، يلجأ أيضًا إلى المتاجرة بالدين وبالقضية الفلسطينية، التى تعتبر سمة أساسية يستخدمها قيادات الإرهابية فى الحرب والسلم، من أجل المزايدة على العالم الإسلامى.. ولم يشهد الواقع أن تاجر أحد بالقضية الفلسطينية، كما تاجر بها أردوغان فى العديد من المواقف والمحافل الدولية.. فالنظام الأردوغانى لم يستخدم الدين لمصالحه الشخصية فحسب، بل أصبح يتفنن فى استخدام المقدسات، لإبراز حالة الانفصام التى يعانى منها؛ ابتداء من مزاعم تحرير المسجد الأقصى والمتاجرة بالقضايا الإسلامية، وتشتيت الجهود، بإيجاد منصات خارجة عن إطار منظمة المؤتمر الإسلامى، لضرب جهود تعزيز التضامن الإسلامى.
ولم يتورع أردوغان عن استخدام بعض المأجورين الأتراك، المحسوبين على النظام الإرهابى، فى الأماكن المقدسة، لرفع شعارات سياسية، يحاولون فيها المزايدة على القضايا العربية والفلسطينية، نذكر منها، رفع شعارات سياسية داخل الحرم المكى.. تحركات مشبوهة، تمضى فى نفس المسار الإيرانى الطائفى، وهو ما دفع مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة، التابع لدار الإفتاء المصرية، إلى وضع النقاط على الحروف، مؤكدًا فى بيان له، أن الهتافات السياسية داخل الأماكن المقدسة جُرم.. فكان هذا ردًا مصريًا على دأب النظام التركى تحسين صورته، بالدفاع عن المسجد الأقصى، وهو أبعد ما يكون عن القضية الفلسطينية، أو تحسين سمعته المنهارة عبر رفع شعارات دعم ومساندة هذه القضية التاريخية، وتوظيف الدين فى خدمة سياساته التوسعية فى المنطقة، فلجأ إلى الاستعراض السياسى المخادع لخدمة أجندته الإرهابية.. وهناك تحركات وخطوات إيرانية مشابهة سابقة للنظام التركى، وقد فشلت بالطبع، والآن تحاول أنقرة أن تلعب نفس اللعبة، لاستخدام الدين لمصلحة السياسة، لكن أوراقها الإرهابية انكشفت.
ولأن النظامين ينطلقان من عقائد سياسية واحدة، فما أكثر الجوانب لتطابق النظامين التركى والإيرانى، اللذين تتسق خطواتهما نحو هدف واحد، هو تدمير الأمة واختطاف مكتسباتها، واستخدام الشعائر الدينية كورقة سياسية، للعب على عواطف البسطاء.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.