مزايدات البرادعى
بدأنا كتابة المقال تحت عنوان «قرون البرادعى»، لكن خشينا أن تستدعى ذاكرتك مشهد محجوب عبدالدايم «حمدى أحمد» الشهير، فى فيلم «القاهرة ٣٠»، أو أن يحيلك سوء نيتك إلى ربط «القرون» بالقوادة أو التفريط فى الشرف، مع أننا لا نقصد ذلك إطلاقًا، ولن نتحدث، من الأساس، عن تلك النتوءات الموجودة فى رءوس الأبقار أو الخرفان، بل عن وحدة قياس الزمن.
الأطفال فى مدارس القرى النائية، والمشردون الذين يشمون «الكُلّة» تحت الكبارى، والحطابون فى الجبال النائية، والفلاحون فى المزارع، يعرفون أن القرن يساوى ١٠٠ سنة. بينما غابت تلك المعلومة عن محمد البرادعى، الذى تخرج فى كلية الحقوق، جامعة القاهرة، سنة ١٩٦٢، وحصل على الدكتوراه فى القانون الدولى من جامعة نيويورك، سنة ١٩٧٨، وزعم فى حسابه على «تويتر»، مساء الخميس الماضى، أن الصراع العربى الإسرائيلى بدأ منذ سبعة قرون!
من خارج المنطقة العربية، أو من خارج الكوكب كله، كتب المذكور: «على مدى ٧ قرون كانت الأمة العربية على قناعة واحدة: الحل العادل للقضية الفلسطينية هو مفتاح الاستقرار فى المنطقة. فجأة أصبحت الرسالة التى يتم ترويجها، هى أن السلام مع إسرائيل هو مفتاح الاستقرار. عندما يتم إملاء مفهوم الأمن القومى من خارج المنطقة».
الخطأ قد لا يكون ناتجًا عن جهل، وربما حدث سهوًا أو استعجالًا، أما المؤكد فهو أن تلك التغريدات، وغالبية تقيؤات المذكور، الحديثة، بشأن الصراع العربى الإسرائيلى، تتناقض كليًا مع مواقفه القديمة، ومع جلوسه على «حِجر الصهاينة»، أمريكيين كانوا أم إسرائيليين، وكذا، مع عدم تعامله مع الملف النووى الإسرائيلى بالجدية ذاتها، التى تعامل بها مع الملفات النووية العراقية والليبية والعربية إجمالًا، خلال فترة رئاسته الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
منذ سنة ١٩٧٨، سنة خروجه من مصر، لم يبد المذكور أى اهتمام بالصراع العربى الإسرائيلى، وكدنا نعتقد أنه لا يرى إسرائيل، إلى أن فوجئنا فى يوليو ٢٠٠٤ بأن «البرادعى يشيد بما قالته إسرائيل عن جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية»، وتحت هذا العنوان نشر الموقع الرسمى للأمم المتحدة، عنه فى ٩ يوليو ٢٠٠٤، أنه اختتم زيارة لإسرائيل استغرقت ٣ أيام التقى فيها رئيس الوزراء الإسرائيلى أرييل شارون، ومسئولين من لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية، وألقى محاضرات فى جامعة القدس. أما ما لم يذكره الخبر، فهو أن المذكور أضاع فرصة مهمة، كان من المفترض أن يستغلها أى مصرى أو عربى، لتعريف العالم بخطورة امتلاك إسرائيل السلاح النووى، على استقرار المنطقة.
لم يكتف بتلويث يديه بمصافحة شارون، بل صافح أيضًا إيهود باراك، وكاد يقبّله «يبوسه» من فمه، خلال مشاركتهما ملتقى ريتشموند، سنة ٢٠١٧. وقبل ذلك، تلوثت يداه وقدماه بدماء مئات آلاف العراقيين، ليس بسبب تقريره المائع الذى قدمه للأمم المتحدة، ولكن لأنه ظل فى منصبه بعد الغزو الأمريكى للعراق، ولم يتقدم باستقالته، أو يهدّد بذلك، كما فعل سنة ٢٠٠٨ حين هدد بالاستقالة لو تم توجيه ضربة عسكرية لإيران. وكما ترك منصب نائب رئيس الجمهورية، اعتراضًا على فض بؤرتى رابعة والنهضة الإرهابيتين.
ظل البرادعى على رأس «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، منذ ١ ديسمبر ١٩٩٧ إلى ٣٠ نوفمبر ٢٠٠٩، وأهم ما ميز أداءه أنه كان خادمًا لإسرائيل، ولم يلتفت إلى المطالبات المصرية والعربية، المتكررة «بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل وفى مقدمتها السلاح النووى وأسلحة الدمار الشامل الأخرى من قبل جميع الدول دون تمييز»، وما بين التنصيص ننقله من نص المبادرة، التى أطلقها الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، فى أبريل ١٩٩٠، التى جاءت تطويرًا لمقترح تقدمت به مصر، إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتم اعتماده فى ديسمبر ١٩٧٤، ويتكرر اعتماده سنويًا.
التاريخ يقول، أيضًا، إن مصر طالبت، فى ١٩ مارس ٢٠٠٣، عبر سامح شكرى، الذى كان وقتها سفيرنا لدى فيينا ومندوبنا الدائم لدى منظمات الأمم المتحدة، بـ«ضرورة امتثال جميع الدول لقرارات الشرعية الدولية الداعية لتحقيق عالمية نظام الانتشار النووى، الذى تعد معادة عدم انتشار الأسلحة النووية دعامته الرئيسية». ولو عدت إلى الجزء الثانى من مذكرات عمرو موسى، «كتابيه»، الصادر منذ أيام، ستجده يشير إلى أنه تقدم، خلال فترة رئاسته جامعة الدول العربية، بمشروع قرار عربى يدين عدم خضوع إسرائيل لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتلقى مكالمة تليفونية من البرادعى يطالبه فيها بسحب المشروع!
التاريخ وسيرة محمد البرادعى، يؤكدان أنه عاش غالبية عمره مستعمَلًا، بفتح الميم الثانية، وكوفئ عن ذلك بمناصب دولية وجوائز رفيعة، بدءًا من جائزة «نوبل»، حتى جائزة «الحمامة الذهبية»، التى منحها له الرئيس الإيطالى، وإيّاك أن تتعامل مع «الحمامة» بسوء نيتك، الذى خشينا أن تتعامل به مع القرون!