رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مارادونا.. الكرة بين الوطنية والعولمة



افتقد العالم منذ فترة طويلة فكرة الإجماع والموقف المشترك، وفى ظل تطورات انتخابات الرئاسة الأمريكية، وأزمة كورونا، وصراعات شرق المتوسط، والمشروع النووى الإيرانى، وجدنا العالم يعود إلى إنسانيته من جديد، فى صلاة حزن ووداع حب، مع رحيل أشهر لاعب كرة قدم فى القرن العشرين: مارادونا.
دائمًا كانت هناك ظاهرة اللاعب الأشهر، فبالنسبة لجيل جدى كان هناك «بوشكاش» الذى كان- إن لم تخنى الذاكرة- من المجر، وبالنسبة لجيل والدى كان هناك «بيليه» ساحر كرة القدم البرازيلى، لكن بالنسبة لى كان «مارادونا» هو أسطورة جيلى، وربما أسطورة القرن العشرين. وهناك العديد من العوامل وراء صناعة هذه الأسطورة، ربما من أهمها تطور لعبة كرة القدم نفسها من حيث خطط اللعب، لم تعد هى الخطة التقليدية التى كان يحدثنا عنها المُعلق الرياضى الشهير والظريف كابتن «محمد لطيف»، خطة (٤-٢-٤) والتى أصبحت بعد ذلك كلاسيكية جدًا. لكن الأهم هو عولمة كرة القدم وتحولها من لعبة عالمية إلى صناعة عالمية لها بورصة عالمية، وفن إدارة لاقتصاديات اللعبة، والأهم فى حالة مارادونا ظهور القمر الصناعى والفضائيات والبث المباشر، كان جيل والدى يعلم نتيجة المباريات الدولية من الصحف، ثم يرى المباراة على التليفزيون بعدها بأسبوع، ويجلس ليشاهد المباراة وهو يعلم نتيجتها، ويعلم أنه فى الدقيقة كذا سيسجل اللاعب فلان الهدف رقم كذا، وهذا يُفقِد المباراة عامل الإثارة. لكن مع مارادونا وكأس العالم، أصبحنا نرى المباراة على الهواء مباشرةً، وتهتز مشاعرنا مع كل لمسة ساحرة من مارادونا، حيث كنا نعتقد أنه مع كل لمسة هناك هدف مُحتَمَل. ما زلت أتذكر هدفه الشهير فى مرمى إنجلترا، وهو الهدف الثانى، الذى اتضح بعد ذلك أنه سجله بيده بخبثٍ شديد انطلى على حكم المباراة، وفى اليوم التالى أصبح هذا الهدف مثار النقاش والجدل فى جميع أنحاء العالم، وبين مختلف الطبقات الاجتماعية. ولقد سجلت السينما المصرية هذا النقاش والجدل فى فيلم «أربعة فى مهمة رسمية» للمرحوم أحمد زكى، وحواره الشهير مع الممثل الكوميدى «عبدالله مشرف»، هذا المشهد فى الحقيقة خير مثال على ظاهرة مارادونا وعولمة كرة القدم، وبمناسبة السينما أتذكر الممثل الكبير «محمود الجندى» رحمة الله عليه، وكيف كان يفخر بالشبه الشديد بينه وبين مارادونا. من ناحية أخرى، أصبحت الرياضة- وكرة القدم على وجه الخصوص- من أهم دعائم الوطنية فى الشعوب، من هنا أصبح مارادونا ربما الرمز الوحيد الذى يُجمِع عليه كل فئات الشعب الأرجنتينى، الذى يختلف أصلًا على الكثير من الأمور. وذكرنى هذا بالنموذج الفرنسى ونهضته الكروية، سواء على المستوى الأوروبى أو العالمى، وكيف طرح مفكرو فرنسا أن نموذج الفريق القومى الفرنسى كان أكبر رادع للتيار العنصرى واليمين المتطرف المتصاعد فى فرنسا، إذ كان أكثر من نصف الفريق من أصول غير فرنسية، وبصفة خاصة إفريقية، وهذه هى فرنسا الحقيقية، فرنسا الحرية والإخاء والمساواة. عودة إلى مسألة العولمة وإجماع العالم على وداع مشرف لمعشوقه مارادونا، رغم سيرة حياته المتقلبة، وكيف ارتدى فريق نابولى الإيطالى فانلة فريق الأرجنتين تحية لذكرى مارادونا الذى لعب لنابولى من قبل، وكم من لاعب حول العالم عندما أحرز هدفًا رفع فانلة مارادونا تحية وتقديرًا لذكرى أسطورة الكرة.
إنها الكرة يا سادة.. الساحرة معشوقة الشعوب.