رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بجعة فى وادى الحيتان!


هناك، على بعد ١٥٠ كيلومترًا جنوب غرب القاهرة، وبالقرب من سفح «جبل جهنم»، الذى يقع فى محافظة الفيوم، تم اكتشاف أول عظام لطائر فى التاريخ: عظام بجعة، وقريبًا، سيكون مسموحًا لك برؤيتها، دون لمسها، كما هو مسموح لك، الآن، أن ترى هياكل الحيتان وباقى حفريات «وادى الحيتان»، أحد أكبر وأهم مواقع الحفريات فى العالم.
بينما خبراء الاقتصاد فى العالم مشغولون بنظرية «البجعة السوداء»، التى سنتوقف عندها فى نهاية المقال، تم الانتهاء من الورقة العلمية الخاصة بعظام البجعة أو بهذا الكشف العلمى الكبير، وسيتم الإعلان عنه رسميًا، خلال شهر تقريبًا، بعد الانتهاء من الإجراءات المتبعة، وأوضح الدكتور محمد سامح، مدير عام محمية المنطقة المركزية، أن هذه العظام تعود إلى بجعة عمرها حوالى ٣٧ مليون سنة، ما يجعلها أقدم بجعة فى التاريخ، ويجعل هذا الاكتشاف هو الأول من نوعه لعظام طيور فى هذه الحقبة التاريخية، التى لم يسبق للعلماء أن اكتشفوا عظام طيور فيها.
يقع وادى الحيتان، داخل محمية وادى الريان، بمحافظة الفيوم، وتم تسجيله فى يوليو ٢٠٠٥ ضمن مواقع التراث العالمى، واختارته منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم «يونسكو» كأفضل مناطق هياكل الحيتان العظمية فى العالم، بالإضافة إلى أن النتوءات الصخرية، ذات الأشكال المتنوعة، تكشف عن التغيرات المناخية التى شهدتها المنطقة. ومن معالم ذلك الوادى، أيضًا، «صخرة الألمان»، وهى صخرة عليها علامات باللغة الألمانية، يقال إن الذى كتبها طيار ألمانى سقطت طائرته، سنة ١٩٤٢، خلال الحرب العالمية الثانية.
كان أول الاكتشافات للبقايا الحفرية فى الوادى سنة ١٩٠٣ أثناء زيارة بيد تل، أحد علماء الجيولوجيا، مصر، لإجراء مسح جيولوجى فى المنطقة، وتبعه علماء كثيرون يعملون على فك ألغاز الأرض والحقب الزمنية للعصور الجيولوجية، وسنة ١٩٨٩ اكتشف فريق من علماء الحفريات المصريين والأمريكيين أول عينات مائية لهيكل الحوت الباسيلوسورس والدوريودون أثروكس، وسنة ١٩٩٦ تم اكتشاف أحفورة حوت آخر قديم يبلغ طوله ٥ أمتار، هو حوت اتشيرنوس سيمونس، وسنة ٢٠٠٦ تم اكتشاف أول حفرية من الثدييات البحرية، وهى من أجداد الفيل وتعرف باسم بيراثيرم. و... و... إلخ.
مجموعة كبيرة من هياكل الحيتان يصل عددها إلى ٤٠٦، منها ‏٢٠٥‏ هياكل عظمية كاملة يرجع عمرها لأكثر من ٤٠ مليون سنة، كما يضم متحف المحمية كثيرًا من الحيوانات والأسماك الأخرى‏:‏ القروش، الأسماك العظمية، الدرافيل وحفريات بحرية، تعود إلى عصر «الأيوسين»، من أبرزها حفريات النيوميوليت أو قروش الملائكة، القواقع، قنافد البحر، السلاحف والثعابين البحرية، وفصيلة «الباسيلوسورس» الديناصورية، التى يصل طولها إلى حوالى ٢٢ مترًا.
لوجود تلك الكائنات بذلك الوادى الصحراوى تفسيرات علمية وأخرى شعبية، علماء الجيولوجيا يؤكدون أن هذه المنطقة كانت جزءًا من البحر المتوسط قبل أن ينحسر عنها إلى حدوده الحالية، وتذهب بعض التفسيرات إلى أن جبل المقطم كان أحد ترسيبات البحر المتوسط القديم، وأن القاهرة نفسها كانت تحت مياهه، قبل أن يتغير مناخ الأرض ويتكون الثلج بالقطب الجنوبى وتظهر أرض مصر، أما التفسير الشعبى فيقول إن تلك الهياكل بقايا طغاة متجبرين، سخطهم الله وخسف بهم الأرض. وعليه، أطلقوا على هذا الوادى اسم «وادى المساخيط»، نعم، هو الوادى نفسه، الذى ذهب إليه «المغامرون الخمسة»، مع المهندس الجيولوجى رضوان، خال «تختخ»، ودارت فيه أحداث أحد أطرف ألغاز السلسلة، التى كان يكتبها محمود سالم، رحمه الله: لغز وادى المساخيط.
قبل اكتشاف بجعة سوداء اللون، أواخر القرن الـ١٧، فى غرب أستراليا، كان الأوروبيون يصفون بها الأشياء مستحيلة الحدوث، لاعتقادهم أن كل البجع أبيض، وما يثير الدهشة هو أن اكتشاف عظام البجعة فى وادى الحيتان، يأتى قبل نهاية سنة ٢٠٢٠، التى تجدّد الحديث، فى بدايتها، عن «نظرية البجعة السوداء»، التى طوَّرها الأمريكى اللبنانى الأصل نسيم نقولا طالب، أستاذ «اللا يقين»، أو عدم اليقين، فى جامعة نيويورك، وأصدرها فى كتاب، سنة ٢٠٠٧، وخلص فيها إلى ضرورة عدم الاكتفاء بتجارب الماضى لتوقع ما قد يحدث فى المستقبل، لأن أحداثًا مفاجئة قد تكون لها تأثيرات بالغة الشدة، واسعة النطاق، على مجرى التاريخ. خبراء فى «بنك التسويات الدولية»، بنك البنوك المركزية، توقعوا فى بداية العام الجارى أن تؤدى أحداث مفاجئة، ناتجة عن تغير المناخ، إلى أزمة مالية عالمية، واختاروا لهذا السيناريو مصطلح «البجعة الخضراء»، وطالبوا البنوك والحكومات والمجتمع الدولى بالتكاتف لمواجهته. ثم شاء القدير العليم أن تسترد البجعة لونها الأسود، بسبب وباء «كورونا المستجد»، وألا ينتهى العام، قبل ظهور عظام أول بجعة فى التاريخ، لا نعرف إن كانت بيضاء، خضراء، أم سوداء!